الزمان: الجمعة الثامن من ديسمبر الساعة الرابعة والنصف عصرا
المكان: قاهرة المعز. منطقة زهراء المعادي.
مع اقتراب نهاية الأسبوع، أبدأ بالتفكير فيما سوف أقوم به يوم الجمعة، وعادة ما أحب تجربة أشياء جديدة كي أتخطى حاجز الملل الذي يسيطر على جميع الأنشطة التي نمارسها خلال العطلات: فقد أصبح الأمر مقتصرا على الذهاب إلي إحدي الكافيهات لتناول المشروبات والمأكولات. ولهذا قررت خوض تجربة جديدة وفريدة من نوعها وذلك يوم الجمعة الماضية وأردت مشاركتها معكم قرائي الأعزاْء. فبعيدا عن المطاعم الفاخرة والكافيهات الأنيقة ذات الـ minimum charge الباهظة، وكذلك المواصلات الخاصة كتاكسي الأجرة وأصهاره من الـ uber والـ Careem اخترت تجربة وسائل المواصلات العامة، وتحديدا أتوبيس النقل العام الذي كنت أرهبه في الماضي، وذلك خوفا من الازدحام ورائحة العرق وتدافع الركاب وحوادث التحرش التي كثيرا ما أرهقت مسامعنا.
تغلبت علي مخاوفي واستجمعت شجاعتي واستجمعت قوايا وتناسيت تلك الأفكار السلبية فأحسنت الظن لأبدأ رحلتي بإيجابية فارتديت الملابس المناسبة لهذه المغامرة واستقليت أتوبيس نقل عام ١٠٠٩ أزرق اللون والمتجه إلى ميدان العتبة. ومع صعود درجات السلم، كانت تراودني توقعات سلبية محبطة من حيث كم الركاب، وكنت على استعداد تام لتلقي اللكمات التي ستنجم عن التدافع ومحاولة الفوز بمقعد. لكن وجدت الأتوبيس غير مأهول بالركاب، وكل المقاعد شاغرة. ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدمي 1009 هاجمت أنفي رائحة نفاذة، ألا وهي، رائحة الكشري المصرى الذي كان يتناوله كل من سائق الأتوبيس والكمسرى وقد عبأت رائحته أرجاء الأتوبيس لتستقبل الركاب بحفاوة. أعلم أن وجبة الغداء هي حق لهؤلاء الموظفين الذين يحتاجون لتجديد طاقتهم، ولكنني أيضا أتمسك بحقي في استنشاق رائحة طيبة وزكية في وسائل المواصلات. وبالرغم من ذلك أصريت على استكمال رحلتي بتلك الابتسامة التي استهليتها بها. فاخترت أحد المقاعد إلى جانب النافذة، كي أتأمل الأحياء التي سنمر خلالها. ولكن تلك النافذة التي انتظرت أن تكون البانوراما التي سأطل من خلالها على مدينة الألف مئذنة، كانت ملطخة بآثار أصابع أيدي جموع الشعب المصري التي تستقل هذا الأتوبيس كل يوم إلى جانب اختفاء بعض الإكسسوارات الخاصة بالنافذة. ناهيك عن كميات الغبار والأتربة والدهون والشحم المستقرة على النافذة. ومع ذلك أصريت على استكمال رحلتي بتلك الابتسامة التي استهليتها بها دون الالتفات إلى تلك العيوب. ولكن يدي ارتطمت بثقوب في المقعد الذي جلست عليه، مما جعلني أوجه نظرى للمقعد لأجده ممزق الجلد بطريقة تؤذي العين. ومع ذلك كان لدي إصرار على الاحتفاظ بابتسامتي التي كانت تقاوم كي تظل صامدة طوال الرحلة.
وهنا قررت التركيز على النقاط الإيجابية في تلك الرحلة -وهي كثيرة- كي أثبت لنفسي أنه يمكن الاعتماد على وسائل المواصلات العامة. ولنبدأ بالالتزام في المواعيد، فأتوبيس ١٠٠٩ وصل في تمام الرابعة وبدأ رحلته في الرابعة والنصف عصرا. بالإضافة لأنني لم أحدثكم بعد عن الحفاوة التي استقبلني بها سائق الأتوبيس وابتسامته العريضة التي أجاب بها عن تساؤلاتي، لا سيما، أنني لست من سكان القاهرة. فقد كان كل من السائق والكمسرى متعاونين لأقصى درجة، وذلك مع جميع الركاب من ذوي الأعمار المختلفة. يضاف إلى ذلك الذوق الذي تحلى به كل الركاب من الشباب والرجال والذين كانوا ينتفضون من على مقاعدهم عند صعود كبار السن أو السيدات أو الآنسات؛ فهم من يحتاجون للجلوس. وهنا شعرت بالقيم المصرية الأصيلة، والتي ظننت لبعض الوقت أنها اختفت ولم يعد لها وجود على الإطلاق. كما انجذبت عيناي أيضا لأحد التصرفات الإيجابية، غير المتوقعة من أحد الركاب البسطاء الذي كان يتناول اللب طوال الطريق. وما لم أتوقعه هو أن ذلك الراكب المتحضر لم يلق بقشر اللب في الأتوبيس -كما هو المعتاد- بل احتفظ به في يده كي يلقي به في أقرب سلة مهملات عند انتهاء رحلته وهو ما دفعني لأتساءل: لم لا يتم وضع سلة مهملات في كل أتوبيس لإجبار المواطن علي احترام النظافة العامة؟ ولعلكم تتساءلون قرائي الأعزاء لِمَ طالبت بهذا الحل السلمي ولم اقترح عقوبة أو غرامة للحفاظ على النظافة العامة للأتوبيس؟ سأجيب بأنني بدأت أميل للحلول السلمية التي تشعر المواطن بإنسانيته، وتجعله يشارك في إيجاد حلول للمشاكل التي تواجهه. أما العقوبات الرادعة، فما هي إلا وسيلة غير مضمونة النتائج، تجعل جملة الفنان علاء ولي الدين الشهيرة \”هو كله ضرب ضرب مفيش شتيمة\” تدور برأس كل مواطن.
ثم أدرت رأسي وألصقته بالنافذة كي أمنع عيني عن التقاط السلبيات، وأنا أحاول بشتى الطرق التمسك بابتسامتي التي كانت تحاول الفرار من وقت لآخر. وبت أمتع نظرى برؤية مسجد السيدة زينب ومنطقة باب الخلق. ولكني لم أتمكن من رؤية تلك الأحياء جيدا من كم الباعة الجائلين الذين يحيطون بالمكان، وكذلك هذا الكم الهائل من المطاعم والمقاهي التي تفترش مساحات شاسعة من الشوارع، فتعوق سير المواطنين بل وسير السيارات. وهنا راودني حوار الفنان عادل إمام مع أبنائه في فيلم \”التجربة الدنماركية\” وهو يتحدث عن المطاعم: \”إحنا نروح لزيزو نتانة ولا زيكو تلوث ولا بحة بتاع الناصرية\” وتساءلت: لماذا لا تهتم الدولة بتلك الأحياء الأثرية القديمة وتحميها مما تتعرض له من انتهاكات؟
واقتربت محطتي، فتأهبت للنزول من ١٠٠٩ لتبدأ رحلتي في ميدان العتبة أو اسمحوا لي أن أطلق عليها \”مدينة العتبة\”. وهنا لم أتمكن من الحفاظ على ابتسامتي التي لاذت بالفرار من هول المنظر! ووجدتني أقول في نفسي: \”ده يوم الحشر؟\” فميدان العتبة يكتظ بالبشر من جميع الفئات العمرية والذين يتحدثون جميعا في نفس اللحظة، بالإضافة للأسواق والبائعين من ذوي الصوت الجهورى الذين لا حصر لهم، والذين يفترشون أرض العتبة منادين علي بضائعهم، في محاولات جمة لجذب الزبائن. كما يشهد ميدان العتبة ما يسمى بـ\”كرنفال المرور\” حيث إنك تشاهد الدراجة البخارية والتوك توك والسيارات الملاكي وسيارات النقل العام وأتوبيسات الرحلات. فأينما ذهبت تحاصرك الضوضاء. وأكملت طريقي- سيرا علي الأقدام- كي أصل إلى وجهتي الأساسية وهي حارة اليهود. وكنت أتخيل حارة اليهود كالتي شاهدتها على شاشة التلفزيون في المسلسل الذي عرض في رمضان ٢٠١٥ ولكنني أفقت على كابوس، فوجدت نفسي في متاهة تخلو من اليهود: أين هي حارة اليهود؟ بالطبع اختفت بفعل غزو الباعة الذين يصطفون جنبا إلى جنب. وليتهم يبيعون منتجات مصرية وإنما تعرض أمامهم أكواما من المنتجات الصينية. ولم يتبق من حارة اليهود سوي معبد قديم، في حالة مذرية، يصعب تمييزه وسط هذا الكم من الباعة والأسواق. \”للخلف در\” كان قرارى. فحاولت أن أجد مخرجا من حارة اليهود الضيقة التي لا يمكن السير فيها دون تدافع ودون الاستماع إلى عبارات مصرية أصيلة: \”وسعي يا ست الكل\” \”كتفك يا عروسة\” \”يلا سكة يا أبلة\” ولكنني وجدت صعوبة كبيرة للخروج من تلك الحارة، التي ذكرتني بمتاهات مجلة ميكي. ففي حارة اليهود \”الداخل مفقود والخارج مولود\”! وفي تلك اللحظة، اختفت تماما ملامح الابتسامة وبدأ وجهي يعبس معلنا عن إرهاقه واستيائه وتساءلت متعجبة \”أهذه هى القاهرة التي تغني بها عمرو دياب قائلا: \”القاهرة ونيلها ومواويلها\” ولم يذكر ميدان العتبة وقد تفهمت الآن لماذا لم يذكره!
ولكنني ختمت تلك الرحلة بلحظة ممتعة أنستني الصفعات القاهرية التي تلقيتها طوال جولتي بالعتبة وحارة اليهود. فبعد هذه الرحلة، كنت أتضور جوعا، مما جعلني أفكر في تناول الطعام لأستعيد قوتي وطاقتي. وتيمنا بسائق الأتوبيس وصديقه الكمسرى اخترت طبق الكشري المصرى من أبو طارق في وسط القاهرة (وهو أفضل من يقدم طبق الكشرى المصرى في القاهرة) الذي تمكن بسهولة من إعادة رسم البسمة علي وجهي. وهنا انتهت رحلتي ومغامرة 1009 ميدان العتبة وبرغم ما قصصته عليكم قرائي الأفاضل إلا أنني سعدت بخوض تلك التجربة فى قاهرة المعز.
وفى الختام أوجه رسالة إلى رئيس هيئة النقل العام بالقاهرة. أشكركم على الاهتمام بتسيير وسائل نقل عام منتظمة وبتذكرة موحدة إلى مناطق نائية مثل زهراء المعادى والمعادى. أشكركم أيضا على انتظام حركة الأتوبيسات (وصول ومغادرة). كما أشكركم على حسن اختيار العاملين بالهيئة سائقين كانوا أو محصلين. ولكن أرجو من سيادتكم متابعة المسئولين عن نظافة وسائل النقل العام والاهتمام بوضع سلات مهملات في أماكن واضحة في الأتوبيسات مع وضع لافتات تذكر الركاب بأماكن وجودها.
كما أود توجيه رسالة إلى رؤساء الأحياء وبالأخص الأحياء الأثرية القديمة. أرجو الانتباه لما يحدث من تدمير غير مقصود لهذه المناطق من افتراش محيط الساحات الخارجية للمساجد وكثرة أعداد المتسولين وظهور المطاعم والمسامط في حرم الطريق مما يعطل حركة المرور.
وإلى اللقاء في رحلة قادمة!