عروس ذات بهاء لن ترى مثله قط. بل لؤلؤة نادرة، حبا الله بها أرض مصر. هي جنة الله التي تخطف الأنظار وتسحر القلوب بزرقة مياهها الفيروزية التي تختلط بصفاء سمائها لتخيط نسيجا متناسقا من النقاء في الأفق.
حديثي اليوم عن عروس البحر الأبيض المتوسط وموجة الحب التي صورها الباريء على أرض الكنانة.. إنها مدينة الإسكندرية، عاصمة مصر الثانية وأحد أجمل محافظاتها (الإسكندرية وليست الأسكندرية كما يدعي البعض، وذلك نسبة للإسكندر الأكبر مؤسسها).
أسطورة الإسكندر الأكبر استطاعت أن تفتن قاطنيها قبل أن تخطف أفئدة زائريها من المحافظات الأخرى أو سائحيها الذين يأتونها من كل فج وصوب. فالمواطن السكندري عاشق لمدينته الصغيرة الساحرة، بل ويصعب عليه الخروج منها ولو لقضاء عطلة صغيرة في قاهرة المعز حيث تكون عندئذ المنافسة على أشدها بين المعز والإسكندر، ولكن عادة ما يفوز الإسكندر الذي نجح، أثناء تأسيسه الإسكندرية، في غرس معاني الحب والانتماء في قلب كل من يسكن أروقتها.
فقط التجول في مدينة الإسكندرية أثناء قيادة السيارة أو سيرا على الأقدام -وهو الحل الأمثل- كفيل بأن يجعلك -قارئي العزيز- تستمتع برقي المعمار والذوق الرفيع في تصميم المباني السكندرية المميزة -لا سيما شوارع الإسكندرية القديمة وأخص بالذكر شارع فؤاد والطرق المتفرعة منه كشارع سعد زغلول وصفية زغلول والسلطان حسين وشارع اسطنبول إلخ. وكأنك في مارسيليا الشرق أو أثينا العرب بل عاصمة الجمال!
أعلم عزيزي القارئ أنه ينتابك شعور غريب وحالة من التعجب من تلك الكلمات التي سطرتها بالأعلى فهي أشبه بحلم تفيق منه على كابوس مزعج. تلك الإسكندرية التي تحدثت عنها بالأعلى لم تعد كالسابق، إذ لم يتبق منها سوى أطلال. فالإسكندرية الحالية ليست بعروس مبتهجة ضاحكة، وإنما أصابتها شيخوخة مبكرة فأضحت عجوز البحر الأبيض المتوسط.. عجوز شمطاء باهتة، بل وبات سرطان القبح وانعدام الذوق يسريان فيها ويجتاحانها بكل أرجائها. فما الذي أصابك يا مدينتي الفاضلة؟
فمنذ انتهاء فترة السيد الفاضل/عبد السلام المحجوب الذي عشقه السكندريون -وهو عشق مبرر مما لا شك فيه حيث أضاف \”المحبوب\” -كما أطلق عليه السكندريون- لمسة جمالية إلى تلك المدينة التي شهدت في عهده تطورا ملحوظا لم ولن تشهد مثله- والإسكندرية تعاني من تردي أوضاعها بالكامل؛ خاصة مع توالي محافظين عدة عليها لم يضيفوا شيئا ولكن أساؤوا إليها. فقد امتدت يد التخريب والتدمير لتنال من كل ركن في أركان الإسكندرية، فها هي مدينتي المغلوبة على أمرها تكتظ بالمباني ذات الارتفاع الشاهق ومنها ما هو مرخص وما هو غير مرخص، وهو ما نتج عنه كوارث عدة في الفترة الأخيرة. خير شاهد على ذلك عقار منطقة الأزاريطة المائل الذي أثار ضجة كبيرة والذي لا نعلم تداعياته حتى تلك اللحظة.
نحمد الله أنه لم يكن هناك قتلى أو جرحي ولكن الخسارة فادحة للأسر المنكوبة التي فقدت كل ما تملك دون سابق إنذار. وهنا يتعين علينا تقديم الشكر والتقدير لكل من ساهم في إغاثة هذه الأسر، ولكن ما الذي ستقدمه المحافظة لهم؟ هل من حلول سريعة وفعالة؟ وكيف ستردع المحافظة المخطئ؟
الجدير بالذكر أن تلك الحادثة ليست الأولى من نوعها بالإسكندرية، حيث شهدت المدينة حوادث عدة من هذا القبيل، نظرا لوجود عدد كبير من المباني الشاهقة غير المرخصة أو المرخصة بالرشوة والفساد وراح ضحيتها قتلى وجرحى. فهل ستظل المحافظة والمسئولين صامتين عن هذا الهراء والعبث؟
ويستمر مسلسل انعدام الذوق والإهمال في الإسكندرية فتجد ظاهرة مثيرة للجدل تفرض سيطرتها وذلك منذ عدة أعوام ألا وهي هدم المباني الأثرية القديمة والقصور والفيلات الراقية وتحويلها لمبان قبيحة هدفها قتل التذوق الفني وإحياء تذوق الماديات. فقد عانت مدينة الإسكندرية عامة ومنطقة سيدي جابر خاصة خلال الأشهر القليلة الماضية مشاكل مرورية جمة وذلك عقب هدم مسرح السلام العريق ليحل محله فندق كبير وجراج ذو طابقين وكوبري لا أعلم فائدتهم إلى يومنا هذا! وما التغيير الإيجابي الذي سيطرأ على المدينة من ذلك المشروع!
ولم تتوقف أعمال التخريب عند هذا الحد، حيث تم مؤخرا هدم حديقة الخالدين لتتحول إلى موقف للسيارات! علاوة على ذلك فقد اختفت شواطئ مدينة الإسكندرية والتي كان المصطافون يتمتعون بها في فصل الصيف وذلك نظرا للإشغالات من مطاعم وكافيهات وغيرها زادت المدينة قبحا على قبح.
ويأتي شاطئ ستانلي بكبائنه مميزة الشكل كشاهد على ذلك، فقد تم هدم الكبائن جزئيا على أمل تطويرها، ولكن ما تراه عيني إلى الآن لهو تخريب مؤكد.
من المسئول عن قرارات الهدم تلك؟ ما هي رؤيتك؟ ولِمَ تصر على قتل الجمال في مدينتنا؟
هل يتوقف سرطان القبح إلى هذا الحد؟ بالطبع لا. فأنا لم أتحدث بعد عن أكوام القمامة المتناثرة هنا وهناك، ومن ثم أتساءل: لِمَ تم إنهاء التعاقد مع شركة Onyx الفرنسية، التي اهتمت خلال فترة تولى المحجوب بنظافة المدينة وجعلت لكل مبنى صندوق قمامة مخصص له وكانت تقوم بصفة دورية بتنظيفه وتطهيره؛ غير المجهود الملحوظ في تنظيف الشوارع بشكل لائق وغسل الأرصفة؟!
الآن، انتهى كل ذلك ليعود من جديد التكوم العشوائي للقمامة وتجمع الذباب حوله. وأما عن سيارة جمع القمامة فحدث ولا حرج؛ حيث تشكل تلك السيارة مصدرا للتلوث السمعي والبصري فضلا عن رائحتها الكريهة التي تغزو قنواتك التنفسية رغما عنك! ألا تهتمون أيها المسئولون بنظافة المدينة التي هي إحدى أدنى حقوق المواطن السكندري؟
وبالرغم من كل أعمال التخريب التي أصابت عروسنا وجعلتها عجوزا، يسعى المحافظون أحيانا لإرضاء مواطني الإسكندرية ولكن بلمسات قد تبدو لهم أعمالا تجميلية ولكنهم \”يزيدون الطين بلة\”، فأتعجب من المحافظين الذين يأمرون بهدم الأرصفة بحجة تجديدها ولكنهم لا يهتمون سوى بزيادة ارتفاعها فتصبح عائقا لكبار السن ويضعون بلاطا من نوع ردئ قد يتسبب في حوادث عديدة في فصل الشتاء. كما يأمر المحافظون بطلاء مصابيح الإنارة بألوان مثيرة للاشمئزاز ويطلبون الرسم على جدران المدينة وأسوارها، ولكن النتيجة هي رسومات طفولية لا تمت للفن بصلة كتلك التي على أسوار أرض المعارض بالأزاريطة! فعن أي تجميل تتحدثون؟ لِمَ لا يسند المحافظ مهمة تجميل المدينة لمتخصصين من كلية الفنون الجميلة بمساعدة الطلبة الموهوبين؟
نداء عاجل واستغاثة طارئة والتماس موجه إلى المسئولين: أنقذوا مدينة الإسكندرية فإنها تختنق وتحتضر. أنقذوا عروس البحر الأبيض المتوسط التي تحولت إلى عجوز قبيحة على يد المخربين. طهروا مدينة الإسكندرية من الفساد الذي يجتاحها. كفى هدما وتخريبا! فلتوقفوا مخالفات المباني غير المرخصة! ولتضربوا بيد من حديد على كل مخرب وفاسد يعمل على تدمير مدينتنا، فقط من أجل المصالح الشخصية!
والآن أتوجه برجاء حار إلى أهالي الإسكندرية الكرام الذين يحبون تلك المدينة. فالمسئولية تقع أيضا على عاتقنا. لنبذل كل ما في وسعنا وليقوم كل منا بدوره للحفاظ على عطية الله لنا. ولنعمل جاهدين معا شعبا وحكومة لإعادة عروس البحر الأبيض المتوسط سالمة غانمة إن شاء الله! ألا تستحق منا مدينة الإسكندرية تلك المبادرة؟