يأتيني الآن يقين لحظي مباغت، أن قطي مسعد سيكون هو البادئ. سيهبش شفتي وأنفي بأظافره مترددا، ثم – وحين لا يجد رد فعل مني- سيغرس أظافره في قاع اللحم الأزرق، ثم يبدأ الافتراس. ليس بدافع الجوع أو البقاء، لكن بدافع الحب. الحب وحده.
حين تفارقني الروح، ويرتمي جسدي جثة مسجية في مكان ما بالمنزل، سيضرب الجوع بقسوة أبطن قططي السبع، بدافع من غريزة البقاء، وبعد أن يفنى كل ما يمكن أن يأكلوه في البيت، سيجتمعون عند جسدي. يحاولون في البداية إيقاظي، سحلول ينام فوق صدري، ونميسي في الفرجة بين ساقيَ، وسمارة تتوسد ساقي اليمنى، بينما نوسي بدورها تتوسد اليسرى، وحنتيرة يحشر نفسه بجوار سحلول فوق بطني وصدري، بينما ستستقر كيكي كفراشة فوق نحري، ومسعد واقف بجوار وجهي يتحسسه بيده ويقرب بوزه من فمي، كأنما ليقبلني. ثم وحين يسحقهن اليأس، سيتحلقن حولي في دائرة يكون جسدي مركزها. أراهن يمؤن بحزن في صوت واحد متصل، وكأنها صلاة عليهن أن يتلونها قبل تناول ما على مائدتهن. جمعيهن مترددات، في حين يتقدم مسعد، كما قلت سابقا بدافع الحب لا الجوع، بعده ستهجم نوسي بنهم وشراهة، وحين يراها حنتيرة –الذي دائما ما يحتذي بها- سيفعل المثل، ثم تتقدم سمارة بخطوات متبخترة وعين سارحة -في عالم لم أره يومًا- ستتقدم وتأكل معهم ببطء، أو كأنها تأكل بشوكة وسكينة على مهل، لا كما تنهل نوسي من لحمي بيديها ورجليها. نميسي سيغادرة الدائرة المتحلقة حولي برأس منكس، وخطوات قط عجوز أعرج، ليختفي في غرفة ما، ويعود بعد ساعات -بنظرة راهب بوذي زهد الحياة في عينيه- يتناول معهن اللحم مجبرًا متقززًا. كيكي ستظل طيلة الوقت تراقبهن لكنها أبدأ لن تأكل. أنا واثقة من ذلك. ليس وفاءا وإنما هي تفضل أن تموت على أن تأكل ما لم تعتاد أكله. ربما ستلعق شيئا من الدماء المتناثرة هنا وهناك. كبيرهن سحلول هو الوحيد اللذي حتى الآن لا استطيع أن أتيقن في الرؤيا موقفه. فقط أراه واقفا بالقرب منهن بوجهه العابس دوما، ونظرة غباء يخالطها التطلع تغشى عينيه. لا أعرف إن كان سيحجم بدافع الوفاء، أم ستغلبه الغريزة. لكن مسعد سيكون هو البادئ.
حين تسألني أيًا من قططي أحب أكثر، ستغيب فورًا صور الإناث، ويطفو أمام عيني الأربعة ذكور، بعدها سيغيب حنتيرة سريعا من الصورة، لتظهر بتردد صورة سمارة (الأنثى) محله، ثم سريعا ما ستزول صورتها ليبقى مسعد وسحلول ونميسي، ثلاثتهم فقط. لكل منهم في قلبي مكان وحكاية.
سحلول هو الأول والأكبر، وكل الباقي من نسله. اسمه بالكامل: سحلول باجيرا الجوجو. سحلول هو رفيقي من بيت أمي، حين أقول سحلول فإن ما تعرضه لي الذاكرة عدة صور بعينها: قط صغير جميل بعيني بومة ، دائرتي الاتساع، واصفرا اللون. قط صغير جميل يزنَ ويرغب في النوم على كتفك كطفل رضيع. قط صغير يشاكس القطة العجوز في بيت أمي، فتطحنه ضربا ومع ذلك لا يرتدع. قط صغير على السرير الذي أشاركه مع أمي، ينام في حضني سرا، إلى أن تكتشف أمي أمرنا، فتطرده شر طردة، وتغلق علي باب الغرفة، وأنادي أنا عليه من وراء الباب بصورة درامية باكية يائسة مفتعلة قبل أن أسقط في بئر النوم، فيأتي من شباك الغرفة المطل على البلكونة، ويقضي الليل كله في خمشه، حتى يستطيع أخيرا إزاحة جزء من بابه الألميتال، يحشر جسده في الفراغ الضئيل ليدخل، وأستيقظ مشدوهة حين أراه نائمًا متوسدًا شعري الطويل الهائش حولي. قط يا فع ذو شهوة عارمة لا تردعه عن اعتلاء قطة حامل في ساعة وضعها، بل ويعتلي بغباء لا مثيل له الصغار الذين وضعتهم لتوها. قط يافع ذو شهوة عارمة ينكح كل ما يقابله في طريقه، حتى أنه ينكح ساعدك العاري إذا ما كنت شارداً. قط يا فع مخصي، لا تعرف كيف حلَ كل حنان العالم محل شهوته المغدورة! قط يا فع يرى في نفسه المسئول الأول والأهم عن كل القطط بل والبشر حوله. قط يافع جميل يغرقك في عطفه وحنانه، إذا ما اعتلَت روحك، أو تألم جسدك. قط يا فع جميل أقسم أنه يفهم كلامك جيداً حين تحادثه، بل ويتجاوب معك.
حين ينام سحلول على حجري مطمئنا يقرقر، أشعر أنه لا يمكن أن أحب في الكون قط مثلما أحبه، وأقرر بدون تردد أنه قطي الأثير.
نميسي، واسمه الحقيقي عجورة سحلول باجيرا الجوجو. هو الابن الأكبر لسحلول. حين أقول نميسي فإن ما تعرضه لي الذاكرة عدة صور بعينها: قط رضيع تهجره أمه ومرض لعين. الكثير من عيادات البيطريين وقط رضيع متمرد يصارع مرض لعين. حزن وبكاء وقط رضيع يرفض الأكل ويصارع مرض لعين. يأس وانتظار وطلب للموت وقط رضيع يصارع مرض لعين. تحسن لحظي وفورة أمل، ثم مرة أخرى قط رضيع يصارع مرض لعين. قط رضيع يصارع مرض لعين وينتصر عليه، لكن المرض يأبى أن يرحل دون أن يترك علامة: دمور في جزء من المخ سيؤدي إلى دمور جزئي في الجزء الخلفي من جسده. قط صغير ومشية عرجاء وأخت شقيقة في مثل عمره، مُحبة ترعاه كما الأم، ويحبها كثيرًا. قط صغير يفضَل الوحدة، ويقضي أغلب الوقت نائمًا في الغرفة التي حُبس فيها معزولًا عن باقي القطط، أثناء مرضه. قط صغير ما لبث أن تحول لقط عجوز هكذا فجأة بدون مقدمات. قط عجوز بعيني راهب بوذي زهد الحياة. قط عجوز لم يحب أو حتى يرغب إلا في قطة واحدة: أخته التي رعته صغيرًا، ومهما تلوت أمامه الإناث معلنة بابتذال عن شهوتها، يعرض عنهن في ضجر. قط عجوز يغار على قطته الحبيبة حين يعتليها غيره من الذكور، يهاجمهما وقت الجماع ليفرق التحامهما، وقد حجَمت عاهته –التي كبرت معه- قدرته على نكاحها. قط عجوز يحجم عن كل ما اجتمع القطط على حبه من ألوان الطعام، وحتى اللهو والمرح. قط عجوز يسقط من شرفة في الطابق الثالث، وأقابله صدفة أمام بوابة العمارة، يجلس مستكينًا واثقًا، وعينيه تنظر لي نظرة راهب بوذي زاهد في الحياة، وهو غارق في بركة من دمه. قط عجوز يفضل الوحدة ولا يأتني ليطلب الحب مني إلا حين يمرض. قط عجوز يروقني نعته بالفنان الغارق في ذاتيه وتفرده.
حين ينام –فيما يندر- نميسي على حجري مطمئنا يقرقر، أشعر أنه لا يمكن أن أحب في الكون قط مثلما أحبه، وأقرر بدون تردد أنه قطي الأثير.
مسعد; اسمه بالكامل: مسعد عجورة سحلول الجوجو، ولقبه: زعبوت الجنينة. أناديه أغلب الوقت بزعبوتي كاختصار. هو ابن بكري لنميسي. حين أقول زعبوتي فإن ما تعرضه لي الذاكرة عدة صور بعينها:
قط رضيع بديع الجمال يهجر أمه بعد شهر من ولادته، ويقرر أن أكون أنا له أماً عوضا عنها. قط رضيع يلاصقني طيلة الوقت، حتى أني لوهلة كنت أفكر أن جزء جديد نما في جسدي. قط رضيع تراه أغلب الوقت ينام مطمئنا فوق كتفي أو على رقبتي، حاشرا جسده الضئيل أسفل ذقني، أو حتى –حين أكون نائمة- فوق وجهي. قط مفطوم يذوب فيه قلبي حبًا، ومع ذلك أعرضه وأخوته للتبني، وحين تأتي صديقة لتبنيه، تحجم- بمصادفة قدرية- عنه وتفضل أخاه، ليبقى. قط مفطوم أؤجل عرضه للتبني، بعد معاناة قصيرة مع مرض عابر، ثم وحين يتماثل للشفاء، ألغي تماما فكرة عرضه للتبني. قط صغير يكبر ويمتلأ جسده سريعا، ورأسه أيضًا ببلاهة أعزيها إلى عيب وراثي. قط سمين أبله، تزيد بلاهته قلبي تعلقًا به. قط سمين أبله جائع دائما وأبدا لمحبتي لا للطعام. قط سمين راهنت أنه تعلقه الشديد بي زائل، بعد أن يكبر-وهذا حال القطط عموما- لكنه ومع مرور الأيام يأبى إلا أن يزداد بي تعلقًا. قط سمين يهجرني بعد عملية تعقميه الجراحية، بعينين يملأهما الدهشة واللوم: كيف سمحت –وأنا التي يثق بها أكثر من نفسه- أن يصيبه هذا القدر من الألم؟ قط سمين يهجرني ويحجم عن السماح لي بمداعبة فروه الجميل بعد خصيه، فأبكي بحرقة بين يديه شارحة له الأسباب، طالبة مغفرته، وفور أن تتساقط الدموع طازجة ساخنة أمامه، سيأتي من فوره متأثرًا ليجلس مقرقرا على حجري. قط سمين أبله، تستغل بلاهته باقي القطط فتضربه تجبرًا، وتغتصب ظلما وعدوانًا كل ما يقع تحت يديه من طعام، أو تفاهات يلهو بها. قط سمين أقسم أن قلبي توقف للحظات حين رأيته طريح على الأرض غائبًا عن وعيه، بعد أن عض حنتيرة رقبته غدراً، وردت الروح لي بعد أن أفاق سريعا من غيبوبته.
حين ينام مسعد على حجري- الذي لا يفارقه تقريبًا- مطمئنا يقرقر، أشعر أنه لا يمكن أن أحب في الكون قط مثلما أحبه، وأقرر بدون تردد أنه قطي الأثير.
مسعد سيكون البادئ. عرفت ذلك حين بدأت اتساءل في حضوره متعجبة عن المحبة التي يستجديها مني، أكثر من الطعام والجنس وأي شيء آخر. كيف كان الحال مع القطط قبلما يستأنسهن الإنسان، ومن أين كانت تروي عطشها هذا للمحبة؟ هل كل الكائنات هكذا مع حاجتها للطعام والجنس/التكاثر مثل القطط أيضا تحتاج إلى المحبة؟ لماذا لا تسعى القطط إلى نيل المحبة من قطط مثلهن؟ وما حال القطط في البراري والشوارع إذن؟ كثير من الأسئلة التي حرت في إجابتها، لكني على يقين أن قطي مسعد سيكون هو البادئ. سيهبش شفتي وأنفي بأظافره مترددا، ثم – وحين لا يجد رد فعل مني- سيغرس أظافره في قاع اللحم الأزرق، ثم يبدأ الافتراس. ليس بدافع الجوع أو البقاء، لكن بدافع الحب. الحب وحده. سيأكلني حتى يحتفظ بي في أحشاءه، لأتحول إلى طعام مهضوم تبثني أمعائه في دمه، فيختلط دمه بدمي، وأبقى ما حيي في الدم الذي يضُخ من وإلى قلبه الصغير المحب. سيخبر مسعد باقي القطط بعد أن ينتهين من تناول الجسد المسجى أمامهن، أني لم أمت، وأن الآن من خلال أجسادهن أعيش أرواحي السبعة.