كالعادة، والتي اعتبرها ظاهرة انتشرت هذه الأيام، يقوم أحد الأشخاص بالتقاط صورة أثناء مروره في أحد الشوارع، لمشهد لفت انتباهه، ثم ينشرها على الـ \”فيسبوك\” مع تعليق يناسب وجهة نظره وفكره وفقا لظاهر المشهد الذي رآه، وبعد دقائق من نشرها تبدأ في الانتشار بسرعة الصاروخ، مع تعليقات غير مناسبة في أحايين كثيرة، تحوي انتهاكا صريحا ومباشرا لصاحب الصورة وخصوصياته وحريته، بينما لم يكلف ملتقط الصورة نفسه عناء الاستئذان قبل أن يقوم بفعلته تلك، وهو حتى لم يستفسر عن ذلك المشهد الذي قرأه ظاهريا واعتمد رؤيته له وقرر نشره على الملايين.
حدث ذلك مع مراسلة قناة الـ \”أون تي في\”، عندما التقط لها أحد المارة صورة وهي تحمل طفلها أثناء ممارستها لعملها، وقام بنشر الصورة مصحوبةً بتعليق سخيف، ويبدو أن الطفل عامل مشترك في الصور حديث المقال، فقد تكرر الأمر نفسه مع أم كانت تسير في أحد الشوارع، ولم يخطر ببالها أن هناك من يراقبها ويتتبع تحركاتها بدون وجه حق، كانت هذه الأم تربط ابنها بحزام أمان يعطيها الحرية الكاملة في التحرك ويعطي للطفل الحرية نفسها، ولم يصل لفكرها ولو للحظه واحدة أنها ستكون حديث شبكات التواصل الاجتماعي، بفعل شخصٍ قرر فجأة انتهاك خصوصيتها وكأنه رأى حزاما ناسفا حول الطفل، لتبدأ صورتها في تشويه سمعتها بهذا الشكل المسيئ لها ولأسرتها.
إن الحزام الذي ظهر في الصورة والذي كان السبب في كل التعليقات الشاذة والمتطرفة والمسيئة، ينتشر استخدامه في أوروبا وأمريكا حفاظا على سلامة الطفل، وقد استخدمته في يوم ما لمزيد من الأمان، وحتى لا تعوقني حركة ابنتي عن الانتهاء من شراء لوازم البيت بكل سلاسة. استخدمته آنذاك ولم أر اعترضا عليّ أو على كثير من الأمهات بحجة تشبيه الطفل بالكلب، كما لم يتهمني أحدهم بالإهمال أو القسوة أو التقصير، رغم أنني كنت في بلاد تحترم حقوق الحيوانات بشدة، ناهيكم عن حقوق الإنسان والطفل على وجه الخصوص، ولو كان أمر (الحزام) فيه تعدٍ على حقوق الطفل لتمت معاقبتي فورا، أو سن قانون يجرم استخدام ذلك الحزام، ولعل من كان سيعاقب بالفعل هو ملتقط الصورة الذي قام بنشرها؛ لأن القانون (في أوروبا والدول المتقدمة) يعاقب على الملاحقة والمضايقة والتشهير.
والغريب في الأمر أن مواقع كثيرة ومنها موقع لجريدة يومية قامت بإعادة نشر الصور دون أي اعتبار أو استفسار عن صحة الكلام المصاحب للصورة، ودونما التفكير في أن مجرد نشرها هو تعدٍ على حرية صاحبتها وإساءة كبيرة لها.
إنني أقدم هنا اعتذارا واجبا لتلك الأم.. اعتذارا عن جهل بعضنا وتعدي بعضنا الآخر علي قدسية حريتها، وأتساءل: إلى متى سيظل كثير من المحررين جالسين في أماكنهم أمام شبكات التواصل يستقون منها الأخبار الكاذبة أو الملفّقة؟! وإلى متى يكون الاهتمام الأول لكثير من المواقع هو (الترافيك) وتحقيق أكبر نسبة قراءات عن طريق عناوين وموضوعات الهدف الأول منها عامل الجذب فحسب، ولو على حساب الأخلاق والمهنية والصدق؟
متى ستختفي من المواقع أخبار شاهد بالصور، فنانة كبيرة تجلس في بيت إحدى صديقاتها بملابس فاضحة. ولن تصدق كيف أصبح شكل الطفل الفلاني عندما كبر، وشاهد الفنانة الفلانية بفستان فاضح، ولن تصدق صور الفنانة (..) وهي حامل، والأخرى وهي بالمايوه.. إنني عندما أتصفح التعليقات على مثل هذه الأخبار، أجد أن أغلبها سب في الجريدة والمحرر وبأقذع الألفاظ، وهذا دليل على أن القارئ يمتلك وعيا يجعله يشمئز من تلك الأخبار ويدرك تفاهة محررها وموقعها الذي نشرها، لكن لا حياة لمن تنادي.. ما دام عدد القراءات والزائرين للموقع وفاتحي (الروابط) في تزايد ملحوظ!
ويظل التساؤل عالقا وهو: متى تدرك الصحف ومواقعها الإلكترونية أنها ليست منتديات أو تجمعات يتبادل فيها الأعضاء الصور والأخبار والشائعات والفضائح التي قد لا تهم أحدا غيرهم؟ متى ندرك وتدرك الصحافة أهميتها في التوجيه والتحليل ونشر الوعي والمعرفة بين الجموع؟ متى نتوقف عن تتبع خصوصيات الآخرين وحياتهم لنلتفت إلى عموميات تخص الملايين بالفعل وتنفع حياتنا جميعا؟! هل سنظل في هذه الغفلة الإعلامية التي هي في ظني \”موجَّهة\”.. أم سندرك جميعا أن إلهاءنا عما يحدث حولنا لن يجدي نفعا لأن الحقيقة تفرض نفسها كالشمس تماما، حيث لا يمكن أن تخطئها عين.