في صباح أحد الأيام المشمسة، رأيت فتاة على شاطئ البحر في مدينة سامسون التركية تنام، وقد خلعت بلوزتها بكل أمان تحت أشعة الشمس، وبجانبها كتبها وحقيبتها المدرسية.
ولدهشتي العظيمة كانت الحياة تسير بشكل طبيعي حولها.. الرجال في طريقهم دون توقف، لم تكن هناك حوادث وكوارث أو صراعات وانهيارات.. أليس هذا مدهشًا؟! أمن المعقول والمصدق ألا يحدث شيء؟
***
كان عندي ورقة بحثية لابد من تسليمها، وكما فعلت من قبل عدة مرات، أكملت ليلتي في إحدى المكتبات بأنقرة لإنهاء عملي المتأخر، وفي الساعة الخامسة فجرًا كنت متعبة تمامًا، ولم أعد قادرة على القراءة بعد.. خرجت لأستريح قليلًا على الكراسي المتراصة جنبًا إلى جنب والمهيأة ليستريح عليها الطلاب.
لم يكن هناك أحد إلا ثلاثة شباب ينامون على تلك الكراسي.. استيقظ أحدهم على حركتي، وما لبث أن عاد للنوم مرة أخرى.. أما أنا فذهبت إلى أحد تلك الكراسي وأغمضت عيني لأنام قليلًا.
لحظتها تبادر إلى ذهني سؤال كنت أعرف إجابته جيدًا، هل كان بإمكاني أن أفعل هذا في مصر؟ هل كان بإمكاني أن أنام ملء جفوني مطمئنة تمامًا أنه لا خطر يحدق بي أو عيون تتربص بي؟
بالطبع لا!!!
***
منذ فترة أطلق الصحفي إسماعيل الإسكندراني على صفحته الخاصة على الفيس بوك حملة تحت اسم \”لا عذر لمتحرش\”، في محاولة لفتح حوار صريح حول ظاهرة التحرش المتفشية في المجتمع المصري.. تفاعل الكثير من الفتيات وحتى بعض الشباب مع الحملة، وقاموا بمشاركة حوادث التحرش أو الاغتصاب التي تعرضوا لها، وكم كانت مؤلمة!
أعادت تلك الرسائل لذاكرتي الكثير والكثير من المواقف المشابهة اللعينة، والتي كنت أتمنى لو كان الزمن قادر على محوها.. فكرت حينها في الكتابة عن قدري المرير كأي فتاة مصرية تعيسة، وما مررت به من تجارب سيئة مازالت أثارها محفورة بداخلي.
أتذكر حياتي اليومية من التعرض للتحرش اللفظي أو التعدي باليد على جسدي، ومحاولاتي الكثيرة إلى حد التعب والإرهاق لمداواة جراحي، وحديثي مع صديقاتي لمؤازرة بعضنا البعض حتى لا نقع فريسة للاكتئاب أو التسليم لقدرنا اللعين.
أتذكر الخوف والتفكير ألف مرة قبل الذهاب إلى أي مكان، وعما إذا كان مزدحما أم لا.. كنت وما زلت أبغض الأماكن المزدحمة لأنها ارتبطت في ذاكرتي بالتحرش وما تركه في نفسي من الآم لم تفارقني في أي وقت، حتى بعد مرور سنوات عديدة.
سافرت لتركيا لاستكمال دراسة الماجستير قبل سنوات ثلاث، كانت لحظة السفر هي لحظة فاصلة في حياتي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد تركت ورائي هذا المجتمع الذكوري اللعين، وانطلقت إلى مكان تمنيت أن يمنحني بعض الحرية.. كرهت تلك المدينة –إسطنبول– المزدحمة، بأتراكها وعربها، منذ لحظة وصولي إليها، لأنها ذكرتني بـ \”قاهرة الفتيات\”.
لحسن حظي لم أبق في إسطنبول كثيرًا، وسافرت إلى أنقرة التي قضيت بها حتى الآن أكثر من ثلاث سنوات تعلمت فيها معنى الحرية وعدم الخوف من الشارع.
الحقيقة أنه ليس هناك ميزات كثيرة في تلك المدينة التي لا يطيق أحد – غير سكانها – البقاء بها، حيث يجدها الكثيرون مدينة جامدة لا روح فيها، إلا أنني لأول مرة في حياتي أشعر فيها أن جسدي ملكي، وأن من أتعامل معهم من الرجال لا يفكرون بي وكأن جسدي ملكية عامة، لهم الحق في مشاركته!
أذكر جيدًا تلك المرة الوحيدة التي تحرش بي رجل تركي خسيس كان يسير مع ابنته الصغيرة ويحمل على كتفه حقيبتها المدرسية الصغيرة.. اذكر كيف ركضت خلفه وأمسكت به وأخذت اصرخ فيه وأشتمه بلغته، وكنت على استعداد لضربه، وهو في ذهول لأنه كان يظن -كمعظم المتحرشين الأتراك بالبنات العرب أو الأجانب- أنني لن أستطيع التحدث باللغة التركية، وبالتالي لن أتمكن من شرح مشكلتي وأخذ حقي، لأن الأتراك في الغالب لا يعرفون غير اللغة التركية.
بعدها مشى الحيوان المُهَان مسرعًا ورأسه في الأرض، بعد أن فضحته أمام ابنته الصغيرة وأمام الناس الذين وقفوا ينظرون إليه باحتقار.
كنت غاضبة، لكنني كنت فخورة بنفسي، لأنني ولأول مرة أعبر عما بداخلي من غضب بصوت جهوري يسمعه من حولي.. لأول مرة لم اكتف بالصراخ والعويل بداخلي، وأُشعر الآخرين بالضرر والألم الذي لحق بي.
***
احتفلت هنا بعيد ميلاد حريتي الثالث، وقد اعتدت هنا أخيراً أن من أحادثهم من الرجال تشغل أدمغتهم أشياءً أكثر أهمية من جسدي قليل الحيلة.
لكن دائمًا ما ينغص فرحتي، شعوري أن هناك فتيات ما زلن يعانين من هذا الجحيم الذي لا يتوقف ولا يجد من يضع له حداً.
فكرت كثيرًا عما يمكنني أن أقدمه لهن، وأنا أتمنى لو كان بإمكاني أن أخرجهن جميعًا، لنترك \”أم الدنيا\” تهنأ بأولادها الذكور، إلا أن ما يجعل حلمي مستحيلًا أن أم الدنيا لم تكن لتسمح أبدًا لبناتها أن يخرجن عن طوعها وطوع أولادها الحيلة، ببساطة لأنهن لم يُخلقن ليقررن أقدارهن، أو كما قيل لي إحدى المرات على لسان إحدى قريباتي -التي لم تقتنع أبدًا بفكرة سفري وحدي- عندما أخبرتها أنني لا أرغب في العودة لمصر بسبب التحرش: جميعنا نتعرض للتحرش، هل هذا مبرر كافٍ أن نخرج ونترك البلد ونكون ناكرين للجميل؟!
الحقيقة أن الحديث عن إيجاد حلول جذرية لكارثة التحرش يبدو صعبًا للغاية ووردياً، خصوصاً في ظل الأوضاع والظروف الحالية، إلا أنه ربما كان تناول تلك الظاهرة والحديث عنها هو أحد المخارج من ذلك النفق المظلم.. صحيح أننا لا نملك سلطة ولا يمكننا الدفاع عن أنفسنا أو نيل حقوقنا، لكن على الأقل نملك صوتًا نصرخ به وأقلاماً ندون بها للآخرين وللأجيال القادمة تجاربنا المؤسفة؛ لننقل لهم ذلك المشهد الذي يصف إلى أي مدى كانت تلك الفترة التي نعيشها بائسة ومظلمة وظالمة لنساء مصر.
من أجل هذا أكتب سطوري تلك، لأعلن أن جسدي ملكي وحدي، ليس من حق أي كائن من كان أن يشاركني فيه دون رغبتي، ليس من حق أحد أن ينتهك حرمته.. أكتب كلماتي هذه لأقول إنني قد تخلصت بالفعل من خوفي المرضي.
الآن.. بإمكاني أن أصرخ بوجه كل من يفكر في انتهاك حريتي وخصوصيتي وحرمتي.. لا أعلم، لربما كان مفتاح أزمتنا الضائع هو أن نجبر الآخرين على سماع صرخاتنا، ومشاركة آلامنا جراء سلبيتهم وتجاهلهم، وأن نشعرهم بمدى نذالتهم وجبنهم وعجزهم.