إكرام يوسف تكتب: مرت 60 سنة.. وأنا مالي؟

أحبوا أنفسكم:
ربما بدا الموضوع شخصيا، لا يهم أحدا.. لا بأس، لست مضطرا لأن تضيع وقتك في قراءة ما لا يعنيك، يمكنك ببساطة أن تغلق الصفحة، وتذهب إلى محرك البحث لتبحث عن موضوع أكثر أهمية!

لكن شيئا بداخلي يريد الفضفضة، ولن أحرم نفسي منها، فلأكتب، وليقرأ من قد يجد في هذه السطور فكرة تستهويه، أو تدفعه للتأمل، أو حتى للتسلية!

ها قد وصلت للمحطة التي كانت تبدو بعيدة إلى حد لا يصدق! ستون عاما مضت بالتمام والكمال، لم أشعر يوما أنني صغيرة أو كبيرة في السن! دائما أشعر أني كما أنا والسنوات تمر.. فماذا يهمني؟ من حقها أن تمر، ولست مهتمة ولا مشغولة بأن اطلب منها التوقف قليلا أو التمهل في السير.. هي من تمر، ولست أنا؟ فلماذا أفرح أو انزعج من مرورها؟ الأمر لا يعنيني من قريب أو بعيد! ولست ممن يحبون حديث الذكريات، أو يتمنون العودة إلى الوراء.. في الحقيقة لا احب العودة ولو يوم واحد إلى الخلف، \”مشيناها خطى كتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها\”.. مشيتها أياما مضت، بحلوها ومرها، وقد تجرعتها حتى الثمالة.. فلمّ الأسى على انقضائها؟

في زمن لم يعد بعيدا، كنت أعتبر ـمثل مجايليَّ- أن من تعدى الثلاثين عاما صار في النصف الثاني من العمر، وتجاوز الشباب، وها نحن الآن نعتبر من قاربوا الخمسين صغارا! لكنني لم أشعر أبدا أن الشباب ميزة تجعلني أفضل ممن تجاوزوه، ومن ثم، لم أحس بالهلع من تعديه، ولم ألجأ إلى إخفاء عمري الحقيقي مثلما يفعل البعض نساء ورجالا!

ربما لأن ملامحي كانت تبدو غالبا أصغر من عمري الحقيقي، فأعامل ـحتى وسط مجايلي- على أنني طفلة أصغر سنا، ما دفعني إلى الإصرار على الإعلان عن سني بمناسبة ومن دون مناسبة!

منذ طفولتي، كنت احب كبار السن، ولم اكن ممن يستهويهم مناكفة الكبار أو إزعاجهم.. رُبيت على أن الكبار يفهمون كل شيء، وأنهم منزهون عن الخطأ، فظللت حتى سن الشباب أُذهل عندما أرى شخصا كبيرا في السن يكذب مثلا! لكن بعضنا ـككل جيل- كان ينفر من كبار السن ويراهم \”دقة قديمة راحت عليهم\”، ويستمتع بالتقليل من شأن الكبار، وتسخيفهم.

على أي حال، لم أكن  كذلك، وفي الواقع ـربما بفعل تربية متزمتة قمعية- لم يكن أمامي فرصة للتمرد حتى بداية العشرينيات، فلم أنعم بشقاوة الطفولة، أو أمارسها.. في الحقيقة، كان ثمن كل محاولة للشقاوة فادحا! حتى تعلمت في العشرين أن أتمرد على ظلم الحاكم وقمعه، فلم أتقبله ممن هم أقل جبروتا وقهرا. وساعدتني قراءاتي منذ الطفولة المبكرة، على أن أحيا عالما موازيا، أمارس فيه كل ما أحبه من تمرد، وتعلمت كيف أحب نفسي وأقبلها كما هي، وألا أقارنها بالآخرين، وألا أتطلع لما لديهم، فأعجبتني نفسي ورضيت بحالي.

وكانت تطلعاتي الشخصية بسيطة، لم أطلب العلا، ولم أتطلع إلى مجد أو شهرة أو ثروة، فلم أشعر بإحباط عدم الحصول على شيء تمنيته.

ولأنني أحببت نفسي، اتسع نطاق طموحاتي ليشمل الحلم بحياة أفضل في وطن أجمل، وصار الإيمان به غاية تستحق أن تبذل من أجلها الحياة، وتجعل لسنوات العمر معنى وجدوى، أنبل من مجرد العيش من أجل متع شخصية زائلة، لا تمثل قيمة حقيقية، بالنسبة لي على الأقل.

هكذا، آمنت بقول كازانتزاكس \”لست أخشى أحدا، ولا أطمع في شيء.. إذا، أنا حر\”.

أغناني إحساسي بالحرية، فلم أقبل أن أقايضه بمال أو منصب، وكنت محظوظة للغاية، بأناس كثيرين ـ يصعب حصرهم -إن لم يكن مستحيلاـ وضعهم الله في طريقي عبر مراحل الحياة، منهم تعلمت الكثير.. الكثير، أثروا حياتي وملأوها حبا وطمأنينة، وكانت أفضالهم علي عظيمة.

هم الكنوز الحقيقية التي حباني بها الله، منهم من غادروا عالمنا، وأوقن أنهم لا شك الآن في مكان أفضل يليق بهم! ومنهم من لا يزالون حتى الآن يعطر وجودهم حياتي، ولا تستطيع كلمات أن تفيهم بعض حقهم أو أن تعبر عن مدى امتناني.. تعلمت منهم أن أحب نفسي وأن أقبلها كما هي، وألا أنزعج من أخطائي طالما لم يدفع ثمنها غيري، فلم أشعر بالندم على قرار اتخذته، وأغلب الظن أنني سأعيد كل ما فعلته لو عادت بي الأيام، حتى الأخطاء التي دفعت ثمنها وحدي، فمنها تعلمت دروسا ساهمت في تشكيل إكرام التي لا أتمنى أن أكون سواها.

على أي حال، عندما أنظر للوراء، لا اجد أنني قدمت ما يمكن اعتباره إنجازا على أي صعيد من أصعدة الحياة، فلا أستطيع أن أقول: \”فعلت!!\” كآخرين قدموا لمن حولهم، وللعالم، إنجازات عظيمة، ربما قبل أن يبلغوا نصف عمري.

لكنني لم أحلم بأن أكون من العظماء، وأشعر بالرضا عما لم أفعله، أو بالأحرى عن اختياري لما لا افعله!

أستطيع القول أنني عندما تعلمت أن احب نفسي، حرصت على ألا أضعها في موضع لا أرضاه لها، فلم أتعمد طيلة حياتي إلحاق ضرر، حتى بمن آذوني!

في الحقيقة، لا استطيع الإدعاء بكوني شخصية متسامحة، فلست كذلك على الإطلاق! وطالما تمنيت أن يدفع من آذوني في مراحل حياتي المختلفة أثمان ظلمهم لي أو الجور على حقوقي، لكنني لم اسع أبدا للانتقام، رغم فرص كثيرة سنحت! ليس تسامحا مني، ولكن لأنني تعلمت من أشخاص أكبر مني ـومن قراءاتي- أن أتجاهل المسيئين، واتركهم حتى يدفعوا ثمن إساءتهم بعيدا عني، وألا ألوث وجداني بمشاعر سلبية، وكنت موقنة ـوعن تجربةـ أنهم سيدفعون الثمن.

وعندما يحين الوقت وأراهم يدفعون الثمن، لم اكن أشمت فيهم ـأيضا ليس من أجلهم ولكن حتى لا ألوث نفسي بمشاعر سلبيةـ لكنني كنت اشعر بالرضا عما آمنت به من حتمية تحقق العدالة.

منذ سنوات، شعرت ذات يوم أن روحي تنسحب مني ـيبدو أنه كان هبوطا شديدا في الضغط- واعتقدت أنني في سبيلي إلى مغادرة الحياة، فتحاملت على نفسي، وأخذت حماما، وارتديت ملابس نظيفة، ثم رقدت في سريري، وخاطبت الله قائلة: \”أعلم أنني ربما قصرت في واجبات كثيرة، لكن كل ما استطيع أن أقوله لك إنني لم اتعمد أن أؤذي أو أظلم أو أجرح أحدا من خلقك عامدة، وأنت تعرف أنني في أوقات كثيرة كنت أستطيع، وأن بعضهم كان يفجر في الخصومة، وكان باستطاعتي أن أدمر حياته لو فتحت فمي ودافعت عن نفسي وقلت ما أعرفه عنهم، لكنني لم افعل لأنني لا اقبل على نفسي أن أضعها هذا الموضع، وأؤمن أنك تعلم كل هذا، أما لو كنت آذيت أو جرحت أحدا دون قصد، فلا شك عندي أنك ستغفر.\”

وأغمضت عيني، لأفتحهما صبيحة اليوم التالي بعدما استمتعت بنوم هادئ!

لأنني أحببت إكراما، لم اقبل لها الدنية، أو المهانة، وأيقنت أن المهانة ليست في أن يسُبك أحدهم، أو يشّهر بك، أو أن يقهرك صاحب سلطة، يستطيع أن يسجنك وأن يعذبك، لكن المهانة أن تضع نفسك موضع الصغائر؛ أن تتجاوز عن الحق أو تنطق بالباطل كي تحصل على مكسب رخيص أو تتجنب غضب الظالمين.

المهانة أن تستحل ما لغيرك، فتسقط في نظر نفسك قبل الآخرين.. المهانة أن تكذب كي يرضى عنك صاحب سلطة.. المهانة أن تعامل من تعتقد أنهم أدنى منك اجتماعيا أو ماديا بعنجهية وتكبر، وتتملق من تعتقد أنه أعلى منك ماديا أو اجتماعيا.. المهانة باختصار، أن تقبل لنفسك الهوان والصغار.

خلاصة القول إن ستين عاما مضت لحالها، ومازلت في مكاني من هذه الدنيا، واعلم أن ما بقي بفعل المنطق والعلم والصحة والحقيقة، أقل كثيرا، لكنني أتمنى أن يمضي، كما مضى ما فات بلا ندم، وأن أظل لآخر نفس عند حسن ظن الطيبين، ولست أتنصل من عيوبي الكثيرة، ولكن يكفيني أن تبعاتها لا يتحملها سواي، ولا تضر غيري.

أحلم أن يكون القادم أقل ألما، وأن يملأ قلوب أحبائي فرحا، بقدر ما أسبغوه على حياتي من محبة، وأن يجزي الله الطيبين الصادقين الذين مروا في  حياتي -كبارا وصغارا- خير الجزاء، لقاء ما غمروني من محبة وما تعلمته على أيديهم من دروس حمتني وسترت طريقي.. وأن يكفنا الله جميعا شر ما تخبئه الأيام، ويجزل لنا خيرها.

ولا يتبقى إلا أن افعل مثلما يفعل أصحاب الخبرة، عندما يقدمون عصارة خبراتهم: أحبوا أنفسكم حبا حقيقيا سويا.. حتى يحبكم الناس وتحبون الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top