\”زمان، ييجي من تلاتين سنة وأكتر، أحمد فؤاد نجم كتب قصيدتين غنائيتين والشيخ إمام غنّاهم. واحدة بعنوان \”هما مين وإحنا مين\” والتانية \”عن موضوع الفول واللحمة\”.. في الأغنية الأولانية بيقول لك:
هما الأمرا والسلاطين.. هما المال والحكم معاهم.. واحنا الفقرا المحرومين.. حزر فزر شغل مخك شوف مينا بيحكم مين.. احنا الفُعلا البنّايين.. احنا السنة واحنا الفرض.. احنا الناس بالطول والعرض.. من عافيتنا تقوم الأرض.. وعرقنا يخضر بساتين.. هم الفيلا والعربية.. والنساوين المتنقية.. حيوانات استهلاكية.. شغلتهم حشو المصارين..\”
وبتكمل الأغنية في المقارنات بين الحرب حطبها ونارها، والجيش اللي يحررها، والشهداء في كل مدارها، منكسرين أو منتصرين، من ناحية \”احنا\”. وبين المناظر بالمزيكا، والزفة وشغل البوليتيكا، دماغهم طبعاً أستيكا بس البركة في النياشين، من ناحية \”هما\”. لحد ما بتوصل الأغنية للمقارنة بين اللي بيلسبوا آخر موضة وبين اللي بيسكنوا سبعة في أوضة، بين اللي بياكلوا حمام وفراخ وبين اللي الفول دوخهم وداخ، بين اللي بيمشوا في طيارات واللي بيموتوا في الأتوبيسات، عشان في الآخر تقول إن همّا فصيلة واحنا فصيلة لأن حياتهم بمبي جميلة، ولما الشعب يقوم وينادي يا احنا يا هما في الدنيا دي.. حزر فزر شغل مخك شوف مين فينا هيغلب مين!
لما أحمد فؤاد نجم يقول إن الفول دوّخه وداخ أنا هصدقه، لأننا كلنا عارفين هو عاش إزاي ومات إزاي. ولما الشيخ إمام اللي اتسجن عشان نضاله الشيوعي يغني لصراع الطبقات ويتوعد الطبقة الرأسمالية الحاكمة بانتقام الفقراء المعدومين، فأنا برضه هكون فاهم تماماً هو بيقول إيه، لأنه في أغنية \”شيد قصورك\” قال لك \”عرفنا روحنا والتقينا.. عمال وفلاحين وطلبة.. دقت ساعتنا وابتدينا\”، فالراجل عنده وعي طبقي واضح، وبيغني للطليعة الثورية المرتقب منها التحرر من ظلم واستبداد الطبقة – ولا مؤاخذة – البرجوازية. ولما المناضلين في زمن فات يستخدموا بعض أبيات أغنية \”هما مين واحنا مين\” كهتافات يسارية ضد الظلم الطبقي، هكون فاهم ده كويس، خاصة إني من الجيل اللي يفهم الإفيه القديم بتاع \”مية مية ولا فراخ الجمعية\”.. أيوا زمان كان فيه مشكلة في اللحوم الحمراء، بل حتى البيضاء، عند الفقراء، وكانت الفراخ لما بتنزل في الجمعيات الاستهلاكية بتقف الطوابير الطويلة عليها وناس كتير ما تلحقش. أما المطاعم، فكانت إما للمشاوي زي الكباب والكفتة والطرب وما شابه، وأقل منها شوية المسامط (جمع مسمط) حيث الكوارع والعكاوي واللسان ولحمة الراس وغيرها من مشتقات الذبيحة. النوع التاني من المطاعم الشعبية فكانت المطاعم النباتية، ودول كانوا نوعين رئيسيين: إما الفول والفلافل والبتنجان وما شابه، وإما مطاعم الكشري. فما كانش فيه اختيارات كتير يعني قدام الناس.
سيبك من الماضي وهوب نط معايا للألفية الجديدة، وقل لي بالله عليك إيه معنى الهتاف بتاع الفراخ والحمام والفول واللحمة؟ ما خلاص يا عمونا الكلام ده اتغير، مش قصدي إن الفقر اختفى من مصر، بالعكس تماماً، ده يمكن زاد. لكن قصدي إن فيه أنماط تانية من المطاعم \”الشعبية\” ظهرت وانتشرت، ودلوقتي سعر سندوتش الشاورما ولا الفراخ بانيه مش بعيد عن سندوتشين فول. الفقر موجود، وسوء التغذية موجود برضه، بس مفيش لهفة الحرمان من البروتين الحيواني في غذاء الطبقات الأوسع، ولو في المدن الكبيرة على الأقل. والأهم من كده إن زمايلنا النشطاء / الثوار / المناضلين مش محرومين من البروتين في غذائهم – بالهنا والشفا للجميع – فاحنا فعلا مش بنهتف الهتافات دي بلساننا، لكننا بنهتف نيابة عن ناس نفسنا تشارك معانا، وبنخدّر ضميرنا قال يعني كده إحنا بنعمل قاعدة جماهيرية بالهتافات الفارغة دي، أو تقدر تقول إننا بنهضم بيها أكلنا اللي مالوش علاقة بالفول إلا كل حين ومين!
الكلام الجميل القديم عاش لأن جماله كان وليد الواقع وكان معبر عن نفسه وكان بيلمّس مع الناس. فلما المعتقلات كانت في الصحرا والواحات، كان الخروج منها على بابها بمثابة نهاية مأساة الاعتقال وبداية مأساة البحث عن طريق العودة، ودي حالة أشبه بمعسكرات الجيش النائية في الصحرا اللي العساكر بينعزلوا فيها عن الحياة تماما فلما ياخدوا أجازة أو يهربوا بتكون بداية معاناة جديدة ما بتخلصش إلا لما يوصلوا للأسفلت عشان يعرفوا يركبوا أي حاجة ويروحوا، فكانت كلمة \”على الأسفلت\” بتلخص قصة طويلة وبتطمن المستمع إن فلان خلاص على أول طريق الأمان والسلامة، وإنه رمى وراه المعاناة والقلق والخطر.
دلوقتي بقى في 2015، إيه معنى كلمة على الأسفلت؟ ما هي السجون الكبيرة فيها أسفلت بتمشي عليها عربيات الترحيلات، وبرا السجن فيه حاجات كتير ممكن المفرج عنهم يدوسوا عليها وتكون معبرة عن الأمان، مش زي رملة الصحرا يعني. أيوه يعني إيه المشكلة لو قلنا إن المعتقلين خرجوا.. وصلوا بيوتهم.. مع صحابهم.. على سريرهم.. على باركيه أوض نومهم.. على سيراميك صالة بيتهم.. على مهلهم.. على استعجال.. على أي حاجة غير البورش والبلاط ورملة الصحرا!
ليه بنمسك في كلمات فاقدة معناها ونحولها إلى كود أو شفرة للتواصل بين مجتمعات مقفولة على نفسها؟ لما قلنا \”ع الأسفلت\” بقينا حبسجية كده وصيع ومتودّكين؟ يعني لما تقرا كتابات شيوعية قديمة وتلاقيهم عمالين بيستخدموا كلمات ومصطلحات مكلكعة بدون اهتمام بتعريبها أو حتى شرحها في الهامش أو توضيح إن فيه مشكلة في ترجمتها لكن معناها كذا، هم كده بقوا مثقفين الحمد لله؟ والمفروض إني يتذل أنفاسي عشان أفهم إن البرجوازية الكومپرادورية – ولا مؤاخذة يعني – هي الطبقة الرأسمالية وكيلة المستعمر؟ طيب كانوا هيخسروا إيه لو وفروا علينا وشرحوها؟ معلش أصل أنا خريج تعليم حكومي مجاني واتعلمت إنجليزي بالدراع، اعذرني يا عم المثقف الفرانكفوني وكلمني بلغة أفهمها، بالذات لما تكون بتتكلم عن تجذير الحركة الثورية في القواعد الجماهيرية والكلام الكبير ده. يعني أنت لا هيئة دبلوماسية مهتمة بالتواصل مع العالم الخارجي ولا بتقول إنك صفوة ونخبة وإن ليك لغة خاصة بيك، يا عم يا بتاع \”الشعب يريد\”!
المشكلة دي طبعاً أزلية وعميقة عند الإسلاميين ولها تاريخ من إنتاج ممارسات التمايز عن بقية المجتمع عن وعي وقصد. ما سألتش نفسك ليه إزاي بتعرف تقفش الإخواني التقليدي من كلمات وعبارات معينة؟ ولو قريب شوية من أوساط الإسلاميين ما أخدتش بالك إن شلة \”الله المستعان\” غير شلة \”إزيك يا أستاذي\”؟ طيب جربت تضرب وتلاقي؟ يعني \”جزاك الله خيراً .. جزانا وإياك / إياكم\” أو \”اتق الله.. اللهم اجعلنا من المتقين\”. طيب أخدت بالك من القاف والعين؟ سمعتهم بينطقوها إزاي؟ لقطت اللي بيحشر الفصحى في كلامه؟ أو خليني أقول لك على حاجة لطيفة.. أخدت بالك إنهم بيميزوا نفسهم بالحواس الخمسة جميعاً؟ يعني عينك هتشوف كود في اللبس، ودانك هتسمع شفرة في الكلام، مناخيرك هتشم أصناف محددة من العطور، ولو قربت منهم شويتين هتبدأ ذكرياتك معاهم ترتبط بطعم أكلات أو مشروبات بعينها!
نرجع لموضوعنا وقل لي بقى: ليه نتكلم زي الناس لما ممكن نعمل لغة بتاعتنا محدش يفهمها أو يستخدمها غيرنا؟ أيوه.. يعني عايزين كلامنا يكون مشفر عشان نلقط بعض وسط الزحمة، لأننا مش زي بقية الناس. وياللي بتسأل إحنا مين.. اهتف معايا.. ياللي بتسأل إحنا ميييين.. إحنا الطائفة الربانية المختارة، أو إحنا الثوار الله أكبر، خمسة وخميسة علينا، لأ إيه خمسة وخميسة دي! بص.. إحنا عمال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا، حتى لو مفيش فينا فلاحين وبنعتبر كلمة فِلْح شتيمة، فإحنا برضه عمال وفلاحين وطلبة. ومش لازم يكون فينا عمال ولا طلبة برضه، بس هي الأغنية كده، ده تراثنا وهكذا وجدنا آباءنا وإنا على آثارهم مقتفون. وساعات بنكون غرباء.. غرباااااء.. غرباااااء وارتضيناها شعارا للحياة.. غرباء ولغير الله لا نحني الجباه، ولما البنات اللي تبعنا يتقبض عليهم ما مابيبقاش اسمهم معتقلات.. بص ممكن نسميهم اسم مميز كده.. إيه رأيك في \”أسيرات\”؟ ولا أقول لك بلاش موضوع أسيرات ده عشان دي تسمية الدواعش.. خلاص نسميهم حرائر.. بتقول إيه؟ تسمية غريبة؟ يا عزيزي..غرباء هكذا الأحرار في دنيا العبيد. وبعدين إحنا ثوار أحرار هنكمل المشوار، وهنفضل نناضل البرجوازية الكومپرادورية لحد ما نشوف الحرائر على الأسفلت.