إسراء عادل تكتب: امسك عميق!

هي حتى مش سيباني اعيط! كل ما تشوفني دمعت تقولي أنتِ هتعيشي الدور؟
جملة اختتمت صديقتي بها حديثها عن مشكلتها مع أمها قبل أن تدخل في نوبة من البكاء والنحيب والتنهيدات المتقطعة، كلما حاولت أن تكف عنها وتكمل ما حدث، ربّتُ على كتفها لتهدأ فتعاود البكاء مرة أخرى. كما لو أنها أول مرة تبكي! أو أنها أخيرًا وجدت شخصا ما يحترم بكاءها ويراه اختلاطا لمشاعر حقيقية بين الحزن والغضب، وليس ادّعاء أو استكانة أو تأثرا بالأفلام السينيمائية كما قالت أمها.
بعيدا عن المشكلة البسيطة بين الأم وابنتها والتي لن اتطرق للحديث عنها. أنا لا اعلم متى تحديدا أصبحت عواطفنا وانفعالاتنا حقوقا مكتسبة لمن حولنا للحكم على مدى صدقها؟ كل طريقة ما تتخذها للتعبير عن إحساسك يرونها مجرد كليشيه، شيء مبتذل واعتيادي ومشكوك فيه. ناهيك عن مصطلح \”العمق\” الذي انتشر مؤخرا وتداولته مواقع التواصل لوصف بعض التصرفات العادية جدا والتي تعتبر حق طبيعي لأي شخص أن يفعلها بدون أي أبعاد أو أغراض خفيّة الهدف منها التباهي والتفاخر.
أنت تذهب للأوبرا؟ أنت عميق. أنت تحب المسرح؟ أنت عميق. أنت تسمع فيروز؟ أنت عميق. أنت لا تعبأ كثيرا بمظهرك؟ أنت عميق. أنت تجلس بمقاهي وسط البلد؟ أنت عميق. أنت تمسك بكتاب ما وتقرأ في الأماكن العامة؟ بلا شك. عميق.

قل لي لمن تقرأ؟ لماذا تقرأ؟ لماذا هنا والآن بالضبط تقرأ؟ هل لو كنت بمنزلك وحيدا، لا أحد يراك كنت ستقرأ؟ بالطبع لا، إنه مجرد ادّعاء فارغ من شخص تافه مثلك. انتظر. ديستويفسكي! ألم أقل لك عميقا! محدثك لن يخبرك حرفا من ذلك الحوار الذي دار في مخيلته توا. لكنه سيكتفي بنظرة سخرية، مع إمالة قليلة للشفاة قبل أن يرحل عنك.
بعض الأشياء البسيطة صرنا نخشى الإعلان عن حبنا لها تجنبًا للسخرية. مشاعر حقيقية خبأناها في مكمن ما وادّعينا عكسها حتى نتظاهر باللامبالاة ومن ثم القوة. المشاعر ضعف، البكاء طفولة، الحب مراهقة، فيروز عمق! الأدب العالمي عمق! المسرح عمق! حتى تكون واعيا، ناضجا، ولست سطحيا أو \”عميقا\” اخفي كل ذلك خلف ظهرك، تشبّه بإنسان آلي يتلون كما يحب مجتمعه أن يراه. لا يفصح عن اهتماماته وما يحب وما يكره حتى لا يبدو طفلا أو مراهقا أو عميقا!
ورغم أن السينما والروايات التي يصفوننا بتقليد أبطالها ما هي إلا صور حيّة من واقعنا، وأن الممثل المؤدي للدور خلفه مؤلف يلقنه النص المحدد، والكلمات الموضوعة في أماكنها بعناية. وأمامه مخرج يخبره كيف يقول هذا النص. متى يبكي، متى يبتسم، متى يضحك، متى يغضب وكيف يغضب، وكيف يحب وكيف يكره. كل ردود أفعاله متفق عليها مسبقا، كل حركات جسده مدروسة ونظرات عينيه محفوظة. هو فقط ممثل.
أنت لست ممثلا، كل ما تشعر به حقيقي جدا. صادقا جدا. أنت البطل الخفي، الذي يستحق أن يسلط عليه الضوء، أن تخبر العالم بما تريد وقتما تريد حتى وإن لم يهتم أحد.وهو الطبيعي، فهناك مليارات من البشر غيرك كلهم أبطال أيضا. فالدور الذي نعيشه ليس فيلما أو رواية. هو دور أعطاه الله لنا، ليس بإمكانك تغييره أو حذف بعض المشاهد منه. في فيلمك أنت البطل والمخرج معا. الأبطال الحقيقيون خلف الكاميرات، والسينما تأخذ من حياتنا بعض المشاهد البسيطة ليؤديها الممثلون، وكل ممثل منهم يلعب دورا ما داخل الكادر السينيمائي لديه دور آخر خفي لا يعلمه أحد. لديه حياته الحقيقية. حيثما يبدو عميقا.
ورغم أنها الحقيقة فعلا، فهناك بعض البشر ابتذلوا مشاعرهم في صورة درامية ساذجة، باهته تشعرك بالغثيان. البعض منهم يعيش بمنطق \”أنا أعترض إذا أنا موجود\” أو \”خالِف تُعرَف\” بلا أي خلفية معينة أو وجهة نظر تدفعهم لذلك، لكنها سطحية وادّعاءات لأفكار لا وجود لها لينالوا انبهار الغير.
وليس معناه أبدا تعميم نظرية هؤلاء المزيفين وربط تصرفاتهم بأفعال عادية ليس لها مدلول ما. أنا أفعل هذا لأني أريده فقط لا لتشجيع ما أو لنظرة انبهار.

الإسكندرية في الشتاء مدينة جميلة جدا فعلا. صوت فيروز ساحر، المسرح مبهر، السينما حياة، الكتب وعي، القهوة رغم مرارتها لذيذة وليس لها أي علاقة بكوني شخصا يحب القراءة أو لا. يسمع فيروز أو عمرو دياب! ليس هناك أي ريبة أو شيء يحتاج لتحليلك العبقري لموقفي أو تصرفاتي وإلا  فلست أنا الشخص العميق هنا!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top