إسراء سيف تكتب: سر اختفاء البسطرمة!

من الطبيعي أن يتصل بك صديق ليسأل عن أحوالك، أو حتى لتساعده بمصلحة ما، ولكن أن يتصل بك صديق فجأة ليسألك عن أحوال البسطرمة! هو أمر يدعو للقهقهة أكثر مما يدعو للتعجب.
بدأت القصة عندما اتصل بي أحد الأصدقاء الأصغر مني ببضع سنوات ليسأل عن أحوالي وتكون الإجابة كالمعتاد بتكرار الحمد لله، بعد الحمد لله رقم ثلاثة، صمت قليلا ثم سألني:
إسراء بدون إحراج يعني: هو أنتوا بتجيبوا البسطرمة كل كام يوم في البيت؟
ذُهلت من وقع السؤال للحظات، فهو سؤال شخصي جدًا، خاصةً أنني تذكرت أن البسطرمة كانت مكونا رئيسيا على العشاء منذ سنوات ليست ببعيدة، والجبنة التركي (الله يرحمها) حتى اكتشفت أننا نشتريها أحيانا بالشهر حتى لا نفتقدها ليس إلا، حاولت التهرب من الإجابة ساخرة ما إذا كان صديقي هذا يعمل على بحث عن البسطرمة أو ما شابه حتى رميت بالكرة في ملعبه ليجيب هو عن السؤال:
– بابا كان متعود يجيب لنا على طول بسطرمة، وفي الفترة الأخيرة بقى يتهرب عشان بتغلى، فحاولت أستفسر، واتحرجت أكلم حد من صحابي الولاد، هو الوضع ده في كل البيوت اللي من طبقتنا؟
قلت له إن الوضع مماثل تقريبا في بيتنا، ولكني لا أعلم عن باقي بيوت الناس، وأن عليه أن يحمد الله لأن آخرين يبيتون بدون عشاء، وليس فقط بدون بسطرمة، وحكيت له قصة كانت منتشرة بإحدي الجمعيات الخيرية التي عملت بمشروع بها يومًا ما بالعشوائيات، عن طفلة صغيرة سألها أحد المتطوعين بالمشروع:
فطرتي يا حلوة؟ فأجابت: مش دوري، النهارده دور أختي الصغيرة!
فالفطار عند البعض ليس رفاهية ولا كل يوم ولا بالمزاج النفسي، ولكنه بالدور، لصعوبة الحال للأسف.

انتهت المكالمة بإقناع صديقي أن يرضى عن حاله وأن يستغني عن البسطرمة، وقد قررت بعد هذه المكالمة المميزة أن اسأل المقربين عن قصة البسطرمة، فكانت الإجابات صادمة بأن البسطرمة اختفت من بيوت أصدقائي ولا تزورهم إلا مرات قليلة بالشهر إن كان شهرًا سعيدًا.
بلغت نسبة الفقر حسب تقارير العام الماضي لأكثر من جهة بمصر وخارجها إلى 26% من السكان، ومعدلات الفقر بوجه عام -أي تحت وفوق خط الفقر وهوامشه- إلى 40%، وبهذه الإحصائيات لا أتعجب كثيرًا أن تختفي البسطرمة من بيوت الطبقات المتوسطة، بل لن أتعجب إن اختفت الطبقة المتوسطة جميعها وتلاشت وأصبح الجميع يعانون من الفقر.
لن تتفاجأ أيها القارىء أن المعدلات أيضًا تقول إن سر ازدياد الفقر في بلدنا نتيجة لسوء توزيع الدخل، فالاتجاه دائمًا لتوزيع الدخول على الفئات الأكثر دخلا وليس الأقل! وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية التي انبحَّ صوتنا بتطبيقها بلا فائدة تقريبا، فلا أعلم ما الصعب في تطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور عن حق، وليس مجرد إعلانه كل فترة حتى نتفاءل نوعًا وينزل تفاؤلنا على فاشوش!
المشكلة أخطر من اختفاء البسطرمة من بيوت الطبقة المتوسطة التي تعاني، ولكن بالنهاية تجد قوت يومها، المشكلة الحقيقية في هؤلاء ممن يعانون من الفقر الحقيقي ويبيتون فعلا دون عشاء، ثم نرمي الحمل كله على منظمات المجتمع المدني وإعلانات التبرع للجمعيات الخيرية برمضان التي زادت عددها عن مسلسلاته!
انتهى بحثي مع المقربين في قصة سر اختفاء البسطرمة، واتمنى من الله بالنهاية أن يرحمنا كما نترحم نحن على أيامها، وأن يرحم هؤلاء ممن لا يعرفون شكلها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top