كنت في الثانية عشرة من عمري حينما بشرتني أمي بأنه عليّ حضور حفل تخرج أخي الأصغر من الحضانة.. كان سعيدا جدا بالحدث، إلى الحد الذي جعله ينتقي ملابسه بنفسه التي سيرتديها بالحفل.. أن ينتقل من مرحلة رياض الأطفال إلى المرحلة الإبتدائية لحدث جلل ومنعطف تاريخي مهم بالنسبة إليه، حيث سيصبح ناضجا بما فيه الكفاية بأن يلحق بدربنا نحن الكبار إلى المدرسة.
اخترت أنا الأخرى أفضل ما عندي من ملابس وذهبت مع أمي إلى حضانته، التي كانت لا تبعد كثيرا عن بيتنا المتواضع، وقد اختارتها أمي على هذا الأساس، وعلى أساس آخر مهم، وهو أنها حضانة إسلامية.. سألتها حينها: يعني إيه إسلامية؟ فكان ردها، أنها تهتم بتعاليم الدين وحفظ القرآن أكثر من أي حضانة أُخرى بالمنطقة.
ذهبت مع أمي وأنا كلي أمل بأن أمرح قليلا مع أخي، وأنال نصيبي من بعض الحلويات والمياه الغازية، لكن كانت المفاجأة أن الحفل لم يكن حفلا! فلم أجد أي مظهر من مظاهر الفرح، أو الاحتفال.. فقط بضع بلالين هنا وهناك تقدر أن تعدهم على اليد الواحدة بلونين متكررين رتيبين.
لم ابدأ التحمس للحفل قليلا إلا عندما قامت مديرة الحضانة بالإعلان عن مسابقة ستقام، وأن هنالك جوائز ستوزع على من يجيب بالإجابات الصحيحة.. تنفست الصعداء حمداً لله، ونظرت إلى أخي بكل تفاؤل منتظرة السؤال الأول، لأجده دينيا وصعبا، أجابت أمي وأخذت الجائزة الأولى، فكادت السعادة تقفز من عينينا فخرا بها بين أولياء الأمور، انتظرنا السؤال الثاني، والثالث، والرابع..إلخ، لتجيب أمي على ثلاثة أسئلة من مجموع المسابقة جميعها بثلاث جوائز.. نظر أخي الصغير إليّ قائلاً: المسابقة دي طلعت للكبار! لم يكن يدرك أن فقرات الكبار لن تتوقف فقط عند هذه الفقرة، فقد قامت مديرة الحضانة بالتمهيد بأنها ستتكلم بموضوع مهم وعلى الجميع الانتباه والإنصات لموضوعها الخطير، وهو حرمانية التلفاز، وقالت مُكررة أمام الأطفال بالغمز واللمز:
– ترضي يكون في كاميرا في أوضة نومك كشفاكي.. ها ها؟
– ترضي يكون في كاميرا في حمامك؟
قام جميع أولياء الأمور بالضحك على إستحياء، ثم الإجابة بالنفي طبعا، ومن هنا قامت الأستاذة مديرة الحضانة بتحريم التلفاز وقائمة أخرى ورائه.
انتهى اليوم وذهبنا إلى البيت لنتناقش في قائمة المحرمات التي وضعتها مديرة الحضانة للأطفال مع أمي، ليفاجئني أخي بأنهم يمنعونه وزملائه التصفيق لبطل حلقات كارتونه المفضل صباحا! وقد كان هذا الكارتون بمثابة فاكهة الصباح بالنسبة إليه، فيحكي لي أخي حينها بتأفف عن منع المدرسات تشجيع عصفوره وبطله المفضل بالتصفيق، وهو يغني أغنية البداية!
اسأل: يا مصطفى بيقولولك متصقفش؟
فيرد ببراءته المعهودة: آه قالولنا التصقيف حرام!
لم أصدقه يوما، واعتقدت أنه ربما اختلطت عليه الأمور في هذا السن الصغير، فالأطفال خيالهم أوسع من الدنيا بحالها، لكن جاء هذا اليوم الذي صدقته فيه بعد مرور عدة أعوام، حينما أصبحت مُدرِّسة لمرحلة رياض الأطفال، وهو نفس السن الذي كان فيه أخي عند تخرجه من الحضانة تقريبا، وتفاجأت بإحدى المدارس التي عملت بها بنهر طفل لطفل آخر لأنه يُصفِّر! قائلا له إن التصفير حرام، والتصفيق أيضا، وهذا ما قالته مدرسة التربية الدينية! كانت المُدرِّسة حينها في الفصل، وقامت بتأييد الطفل الذي نهر زميله بإعجاب شديد على قدرته العالية في الفتوى والتنظير على زميله في هذا السن الصغير!
رجعت يومها إلى أخي لأسأله عن ذكريات الحضانة، وأحكي له الموقف الذي رأيته بأم عيني، ليفاجئني بموضوعه، وهو إعلان صديقه بالمدرسة إلحاده وعدائه الشديد للإسلام دونا عن باقي الأديان!
يقول له صديقه إن الإسلام يحرم أبسط حقوق الإنسان، خصوصا حقوق المرأة، ولذلك يكرهه دونا عن أي دين آخر.. يتناقش وأخي كثيرا ويثبت على إلحاده مع الأيام، ومع موجات الفتاوى العجيبة التي يصنع منها الرأي العام قبة كبيرة يدور الناس حولها وينشغلون بها دون أي فائدة تعم عليهم سوى إزدياد فراغ عقولهم، يزداد التشتت في عقول الشباب، ولا أعلم إلى متى سيتركون هؤلاء في محاولاتهم تطويع الدين أحيانا لرغباتهم السياسية، وأحيانا أُخرى للشهرة؟! وإلى متى سيساعدهم الإعلام في الوصول إلى مبتغاهم على حساب تغييب العقول وإزدياد الفتنة؟! وأين دور وزارة التربية والتعليم والأزهر في مُتابعة الحضانات والمدارس ودور تحفيظ القرآن مما يحدث فيها؟!
أعود للحديث مع أخي عن ذكرياته بالحضانة وعن أمثال المدرسات الذين يحرمون على الأطفال حياتهم قبل أن يُوَّكل إليهم ملائكة اليمين والشمال، فيؤكد لي أنهم كانوا يحرمون فعليا التصفيق بحضانته وأشياء أُخرى كثيرة لم يعد يتذكرها، لكن لابد أن صديقه الملحد لم ينساها أبدا!