كل يوم انتظر في مصر حدثا أو حكاية يقبلها العقل, لكن كل يوم يخيب رجائي، فما نراه حولنا كله خارج حدود العقل.
أسوأ ما يكون خارج حدود العقل، هو أن لا يكون هناك قانون، أو يتم تجاهل القانون، أو يتم التحايل على القانون، أو الخطأ في القانون بشكل فاضح.
وعندما يتم ذلك بشكل متكرر، فيتجاوز الأمر فكرة الخطأ في القانون، إلى القصد المباشر.. أحكام إعدامات بالجملة، وعلى المتهمين انتظار حكم النقض الذي يجد -عادة- قصورا في التسبيب، أو قصورا في الإجراءات، فتعاد المحاكمة، لكن يكون هناك من مات قهرا، أو أصابه الشلل من أسرته، خاصة إذا كان شابا أو فتاة، فما بالك إذا كان طفلا!
حبس احتياطي يصل إلى أكثر من عامين، ويصبح فيه الأطفال شبابا، مما يشي أن هؤلاء الأطفال هم وحوش كاسرة، بينما هم يقفون أمام النيابة أو القضاء، ويرونهم أطفالا لا حيلة لهم، ويصل الأمر في حالة مثل حالة محمود محمد، أن ينتهي عاما الحبس فيظل محبوسا، وكأنه جاليفر في بلاد الأقزام سيهدم الدنيا على من فيها!
أمناء شرطة يتجاوزون بالقتل والإهانة، وتصدر البيانات قبل التحقق من الجريمة بأن في الأمر خطأ وغير مقصود، كأنه توجيه للقضية.
مواطن أجنبي يتم خطفه وتعذيبه وقتله وإلقائه في الطريق، ولا أحد في مؤسسات الدولة الضخمة قادر حتى الآن أن يفك لغز قتله، وصارت سيرتنا زفت في كل الدنيا.
حالة من الانتقام المرعب لا يمكن أن يقبلها عقل، المدانون فيها دائما هم الضحايا، لأن القاتل أو المسيء يفوز دائما بالبراءة.
ولا عجب، فلقد فاز مبارك ورجاله بالبراءة في قضية قتل المتظاهرين لعدم وجود الأدلة، وكان يكفي قول النيابة وقتها إن الداخلية أو الأجهزة المعنية أخفت الأدلة، ليكون الحكم رادعا، فلا يخفي الأدلة إلا القاتل ورجاله، ولا تكفي كل الأفلام عن يوم 28 يناير التي توضح القتل للمتظاهرين، ولا يفعل ذلك أحد إلا بأمر، لكن المهم الأدلة!
كثير جدا من الكلام المؤلم عن حالنا اليوم، والأكثر إيلاما هو انتقال الأمر إلى الرأي والمشتغلين بالرأي.
صدّق الطيبون مقولة تجديد الخطاب الديني، فانطلقوا، فانفتحت لهم السجون، وسبق رجال الدين الجميع، وقدموا التجديد المطلوب، وهو أنه لا خروج على الحاكم، ووصل الأمر ببعضهم إلى القول أن من حق الرئيس أن يفقا عيون الشعب مادام ذلك يتفق مع الشرع! ولا أعرف في أي شرع يفقأ الحاكم عيون الرعية!
لكن مادام لا خروج عليه فيمكن طبعا أن يفعل إذا أراد! ويقولون له جدع ياباشا!
وانتقل الأمر إلى الأدباء، فشاب ينشر فصلا من رواية به كلمة أو كلمتين تشيران إلى الأعضاء الجنسية التي يملكها الناس جميعا بمسمياتها الشعبية الدارجة، يصبح سببا في انهيار قيم المجتمع والقضاء على الأخلاق والقيم، وما استقر في الدين والسلوك!
الله أكبر.. جدع ياباشا، وكلنا نرى ما سبق أن أشرت إليه، والبراءة تنتظر كل من خرج على القيم والسلوك، وقتل بقلب بارد، أو أهان أو عذب مسجونا.
والذي لا يمكن تصديقه هو الدستور الذي في مادته رقم 67 يمنع الحبس في قضايا النشر, أي يمنع الإجراءات السالبة للحرية, لكن منذ متى هناك احترام للدستور، ومجلس الشعب نفسه يتأخر في تحويل مواده إلى قوانين؟!
وسؤالي هو حتى مع تأخر مجلس الشعب.. ألا يحق للقاضي أن يأخذ بالدستور أو يرسل القوانين القديمة للمحكمة الدستورية ترى مدى دستوريتها الآن قبل أن يصدر الحكم.. فعلها أحد القضاه في قضية من غير قضايا الرأي، لكن ليس كل القضاة سواء.
للأسف القاضي الذي حكم على ابنة المنتج السبكي قال إن الدستور يمنع الحبس، لكن في الدستور، الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، ولم نعرف المادة التي تم تشريعها على أساس الشريعة الإسلامية ليحكم هذا الحكم!
ويصل الأمر إلى القصة كما قلت.. فصل من رواية نشر في صحيفة لا يقرأها غير الأدباء أو محبي الأدب، يظهر شخص يقول إنه أضير وأحس بالغثيان، فتأتي حيثيات النيابة كأن مصر انقلبت وضاعت في التاريخ! وحين يحصل أحمد ناجي الكاتب المتهم على البراءة، تعترض النيابة كاتبة الحيثيات، التي كنت أحب أن تحفظ الشكوى من الأساس، فليس هناك أحد يجبر أحدا على القراءة.
القراءة فعل اختيار، والأداب والفنون تصبح في النهاية سلعة، من أحبها اشتراها، ومن لم يحبها لا يشتيريها، وإذا اشتراها ولم تعجبه لا يعود إليها أو يكتب في نقدها.
للأسف.. بدا من حيثيات النيابة أن مصر راحت في (الوبا) بسبب هذه الكلمات التي لم يقرأها نصف من اشتروا أخبار الأدب، وهم أصلا وغالبا -كما قلت- أدباء أو في طريقهم إلي ذلك، وأكثر من ألف مرة نقول إنه في الفن أي شخصية تظهر بما يليق بها، فالشخصية المنحطة في الرواية أو القصة تقول ما يدل على انحطاطها، والشخصية الفاجرة تقول ما يدل على فجرها، والحرامي يقول ما يدل عليه من لغته، وهذا هو الصدق الفني. والكاتب ليس أيا من هؤلاء، ولذلك مثلا لا نعطيه جائزة لأن هناك شخصية محترمة، ولا نقول له جدع يا باشا!
ليس معقولا في الأدب أن تتحدث العاهرة بلغة القاضي، ولا القاضي بلغة اللص، ولا المدرس بلغة العاهرة، ولا العاهرة بلغة الشيخ.. كل بلغته، وهذا هو الصدق الفني، والكاتب ليس واحدا من هؤلاء.
قلنا ذلك مرار وتكرارا، وقاله غيرنا، ولا فائدة! الكل خائف على سمعة مصر، فيلقي بالدستور على قارعة الطريق، وينتشر في البلد القتل والسحل والتعذيب والسرقة والزبالة في الطرقات، وكلها طبعا لا تسيء إلى سمعة مصر! بل وتفتح الفضائيات قنواتها لألفاظ منحطة يقولها رجال يفترض أنهم قدوة، لكن كله يهون علشان مصر، إلا ما يكتبه كاتب، أو يقوله مفكر. ماذا تركتم للإخوان المسلمين والجهاديين والسلفيين؟! تفوقتم عليهم والحمد لله -في التخلف- مئات السينين.
يُنشر هذا المحتوى في إطار حملة مشتركة بين مواقع \”زائد 18\”، و\”مدى مصر\”، و\”قل\”،و \”زحمة\”. للتضامن مع الروائي أحمد ناجي.