جلست استريح على المقهى، فسألني أحد الشباب:
– ما هي حكاية الفرعون التي تسير بين الناس هذه الأيام؟
أجبته:
– ماذا تقصد بالضبط؟
قال:
– ناس تطالب السيسي أن يكون فرعونا، وناس تنتقده لأنه فرعون.
ضحكت وقلت:
– المنتقدون لأنهم كانوا يتوقعون حياة ديموقراطية أرحب، والمطالبون في حالة يأس من الإصلاح.
سكت لحظات وسأل:
– وهل كان الفرعون جبارا حقا, وهل ليس في حياتنا غير المرحلة الفرعونية؟
قلت:
– لقد كانت هنا حضارة عظيمة بدأت على ضفاف النيل، وما بقي منها دليل على عظمتها. لكن هذه العظمة كثيرا ما نفسرها تفسيرا خاطئا، فمادام الحاكم كان فرعونا، فلابد أن يكون حاكمنا فرعونا أيضا، والذين يقولون ذلك لا يدركون أن الفرعون في تلك الحضارة القديمة كان إلها أو ابن إله. كان المجتمع مظهرا من مظاهر المجتمعات العبودية القديمة، وفي هذه المجتمعات الحاكم بمرتبة الإله، فما بالك والاعتقاد أن الفرعون من نسل الآلهة؟!
ابتسم وقال:
– وهل يمكن أن يعود ذلك؟
قلت:
كل ذلك مضي وانتهى، ومرت البشرية -ومصر من بينها- بمراحل عدة. دخلت مصر منذ العصر الروماني مرحلة صار فيها الحاكم شخصا عاديا يمكن قتله بسهولة من شخص آخر يريد الحكم. قد يكون قائد جيوشه أو صديقه، واستمر الأمر طوال العصر الإسلامي، رغم أن الحاكم كان ظل الله على الأرض.
لم يعد أحد يصدق إلا يأسا أو خوفا، وكان من أسهل مظاهر \”عادية\” الحاكم قتله، فتقريبا لم ينجُ أحد من الحكام من القتل إلا عددا لا يصل لأصابع اليد الواحدة.
قال مندهشا:
– ياه.. إلى هذه الدرجة؟
قلت:
مرت البشرية بمراحل أخرى.. الإقطاع ثم الرأسمالية ثم الشيوعية وما بعد الرأسمالية, الاحتكار والنيوليبرالية وغير ذلك. بين هذه المراحل مذاهب واتجاهات أخرى لم تنجح في الوصول إلى الحكم أبدا مثل الأناركية والطوباوية وغيرها.
الطوباويون مثلا أي أولئك الذين يريدون أن يقيموا مجتمعات مثالية بعد أن فشلوا في الوصول إلى الحكم في أوربا، هاجر كثير منهم إلى أمريكا الأرض الجديدة المكتشفة وقدموا علومهم وأفكارهم في النهضة.
الأمر نفسه في مصر في عهد محمد علي، جاء الطوباويون إلى مصر وساهموا في نهضتها العمرانية والصناعية وهكذا.
سألني:
– وهل كان محمد علي فرعونا؟
قلت:
– لا طبعا.. لقد انتهى من العالم عصر الحاكم الإله، ومن مصر أيضا، وظلت مصر تعاني من عصر الحاكم الفرد المستمد قوته من جيشه وبوليسه، وليس من الله كالفراعنة، ثم انتقلت نقلة كبيرة مع الخديوي إسماعيل. صار في مصر أول برلمان عام 1868، وهكذا دخل الشعب المعادلة رغم أن أعضاء البرلمان كانوا من الباشوات.. باشوات لكن ليسوا من الأسرة الحاكمة.
– يعني كانت أحسن مما هو الآن؟
– طبعا.. شهدت مصر مرحلة ليبرالية رائعة منذ ذلك الوقت، وبشكل خاص منذ ثورة 1919 حتى عام 1952.. مرحلة ليست بالطويلة لكنها رغم أي شيء وضعت الشعب في قلب معادلة الحكم. بعد 1952 عاد حكم الفرد.
– لكن الكثيرين يصفون عبد الناصر بالفرعون أيضا!
– على سبيل المجاز لا الحقيقة، لأنه اعتمد في حكمه على الدولة البوليسية، وأوقف عمل الأحزاب وصادر الديموقراطية.
– غريبة.. هناك من يقدسه!
– لأنه حقق إنجازات كبيرة في الصناعة والعلم والصحة وغيرها، بدأت تضيع كلها بعد وفاته أو قتله والله أعلم.. بدأ في تضييعها الرئيس السادات بالبيع لرجاله من الحزب الحاكم، وحين أعلن أنه أمير المؤمنين دخل في منطقة حكم الفرد بامتياز، وجرى له ما جرى.
– طيب لماذا يطلب بعض الناس من الرئيس السيسي أن يكون فرعونا، ألا يخافون عليه؟
– لا طبعا لا يخافون عليه، وإلا ماطلبوا ذلك. هم يتصورون أن البلد لابد أن تحكم بالقوة، وأن هذا الشعب لا يليق به إلا القوة، وهذه ثقافة ترسبت عبر الستين سنة السابقة، لقد نسيوا تاريخ المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، الذي استيقظ مع ثورة يناير.
– طيب ومبارك؟
– كان أحسن حظا.. استلم الحكم وسكت عنه الناس بسبب الإرهاب -على الأقل السنوات العشرين الأولى- وعادة بعد اغتيال الحاكم تقوم الديكتاتورية كحل وحيد.
– يعني أنت لم تكن مع قتل السادات؟
– لا.. كنت مع التغيير السلمي، رغم أني ضحكت يوم موته؟
– لماذا إذن ضحكت؟
– لانه هو الذي تسبب في ذلك لنفسه.
– ولماذا استمر مبارك كل هذا الوقت؟
– لانه بعد العشرين سنة الأولى دخل الشباب مرحلة الرجولة، وبعضهم الكهولة، وانشغلوا بابنائهم الذين كانوا وقود ثورة يناير فيما بعد. ولقد رأيت ما انتهى إليه مبارك.
– يعني أطمئن إن السيسي لن يكون فرعونا.
– اطمئن جدا.. العصر مختلف أكثر.. الآن عصر الميديا والسرعة الفائقة، وبعدين الطريق ده اللي يمشي فيه يا ابني، مايرجعش.
– طيب أيهما أخطر على الرجل الآن.. مؤيدوه أم معارضوه؟
سكت بدوري قليلا وقلت:
– مؤيدوه الذين يدفعونه في طريق معارضيه! الفرق بين الفرعون زمان والحاكم الآن هو الفارق بين رسالة بريد تصل على ظهر حمار زمان، ورسالة على الفيسبوك أو هاتفك المحمول الآن.
هكذا يكون مصير الناس من زمنهم، وطبعا الحكام قبل الناس. الفرعونية مرحلة، وإعادتها مستحيلة، وثق في ذلك، وإن من ينادون بها لا يعرفون شيئا من التاريخ ولا ماذا جرى فيه، وكما رأيت أن من حاول أن يكون فرعونا بعد أن انتهت المرحلة الفرعونية لم يخرج من الحكم سالما.
هذا لمن يكرهون الفرعونية رغم أنهم يعرفون ذلك ليطمئنوا, ولمن يحبونها ليتعظوا.
– طيب.. ماذا تسمي ذلك، أي تحميس الرئيس على الفرعونية؟
– هي أغنية قديمة لا أكثر في محطة إذاعة مهجورة.
