أصبح العالم قرية صغيرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، قرية صغيرة للدرجة التي تجعل أزمة السكر في مصر مرتبطة بقرار اتخذته حكومة إحدى دول قارة أمريكا اللاتينية في الجهة المقابلة لنا على الكوكب وهي \”البرازيل\”، في الوقت الذي لم يؤّمن فيه صناع القرار في الحكومة المصرية سلعة استراتيجية هامة تدخل في عصب الصناعة لمجموعة من الصناعات الغذائية المختلفة بل في عصب الحياة لكل مواطن اعتاد أن يتناول كوبا من الشاي أو القهوة.
في الوقت الذي يتبادل فيه كبار التجار والحكومة الاتهامات حول أسباب الأزمة، سوف نصحبكم في السطور القادمة لجولة لما خلف الأزمة، لنضع أيدينا على بداية طرف الخيط بالأرقام والحقائق.
كان الإنتاج المصري المحلي من السكر في عام 2014 حسب تصريحات وزير الزراعة السابق الدكتور عادل البلتاجى، 2، 2 مليون طنا من سكر القصب والبنجر معا، حيث يساهم سكر البنجر بنحو 54.5% بينما يساهم سكر القصب بنحو 45.5% من إجمالى إنتاج السكر فى مصر، وكانت هذه النسبة في هذا الوقت تمثل 75% اكتفاء ذاتيا للاستهلاك المحلي ويصل في بعض الأحيان إلى 80% ما يعادل استهلاك حوالي 9 أشهر، وفي ظل هذا الانتاج لم تكن تعرف مصر أزمة في السكر.
على الجانب الآخر البرازيل، أرض البن والكرنفال وكرة القدم، وهي أيضا المنتج الأول في العالم لقصب السكر، بعد أزمة النفط الطاحنة -في بداية السبعينيات- بدأت البرازيل في البحث عن بديل حتى توصلت لإنتاج الإيثانول من قصب السكر واستخدامه \”كوقود حيوي\”، وفي عام 1975 أمر الرئيس البرازيلي حينها \”إرنستو جيزل\” بخلط الإيثانول بنسبة 10% مع البنزين كمحاولة لخفض سعر البنزين، وبحلول عام 1980 ازدادت نسبة الخلط إلى 25% واستمرت تلك النسبة لفترة من الزمن، حيث امتلكت البرازيل في عام 2009 حوالي 734 مصنع لإنتاج الإيثانول حيث ينتج المصنع العادي حوالي 2 مليون طن من قصب السكر سنويا وينتج حوالي 200 مليون لتر من الإيثانول تقريبا، وأصبحت البرازيل بهذا أكبر مصدر للإيثانول في العالم، حيث كانت المصدر الرئيسي لكل من الولايات المتحدة والهند وكوريا الجنوبية واليابان وفنزويلا.
وفي هذا الوقت وتحديدا في الفترة من عام 2003 إلى 2009، ارتفع عدد سيارات الوقود المرن \”التي تعمل بالإيثانول والبنزين معًا\” من 24000 إلى 4.9 مليون سيارة على التوالي مما ضاعف الطلب العالمي على الإيثانول.
مع بداية اكتشاف حقول النفط في البرازيل \”توبي\” و\”كاريوكا\” من شاطئ \”ريو\”، وانخفاض سعر النفط العالمي في ظل سياسات \”منظمة الأوبك\” في الفترة من عام 2014 وحتى 2016 التي كانت تهدف إلى الحفاظ على معدل الانتاج بالتزامن مع انخفاض حاد في سعر برميل النفط الخام، وصل ما بين 30 إلى 50 دولار بعدما كان يتراوح سعر البرميل في السابق ما بين 100والـ 120 دولار، أدت كل هذه العوامل لانخفاض سعر البنزين مقابل إنتاج الإيثانول مما شجع البرازيل لتصدير السكر بشكل مكثف لوجود فائض كبير منه استيراد البنزين.
عودة مرة أخرى إلى مصر، التي وجدت الحكومة فيها أن سعر السكر المستورد في السوق العالمي في تلك الفترة من نهاية عام 2014 وإلى 2015، أرخص من سعر تكلفة إنتاج السكر المحلي، حيث كان يكلف إنتاج كيلو سكر محلي في مصر 4 جنيهات وتقوم وزارة التموين ببيعه للمستهلك بـ 5 جنيهات، أما سعر كيلو السكر المستورد وصل في السوق المحلي لـ 3.5 جنيها، ففضل المستهلك شراءه من خارج التموين، فقلت الكميات المحلية التي يتم توزيعها في التموين، فخفضت وزارة التموين الكميات التي تشتريها من المصانع مما أدى إلى تراكم السكر في مخازن مصانع السكر، فلا يجد من يشتريه، وخفضت المصانع الإنتاج نظرًا لضخامة المخزون وبالتالي خفضت المصانع شراء محصول البنجر من الفلاحين فخسر الفلاحون في هذا الموسم خسائر كبيرة، يكفي أن نقول إن فى أكتوبر من العام الماضي تراكم 150 ألف طن بنجر سكر معرضة للتلف بعد تكدس 260 ألف طن بنجر بمخازن شركة الدلتا وحدها، وكذلك الحال في باقي مصانع السكر المصرية.
مرة أخرى إلى البرازيل التي بدأت إجراءات لضمان تحقيق التوازن بين المكاسب المالية لصناعة الإيثانول والتي يقوم عليها عدد كبير من المصانع بجانب الصناعات التكميلية، والحاجة لسياسات تتسم بالمسئولية الاجتماعية للتنمية، في ظل عودة سعر برميل النفط مرة أخرى للارتفاع مع نهاية عام 2016 وبدأ معها التوازن في سعر السكر العالمي.
كان الفلاح المصري قد أتقن الدرس من خسارة محصوله في الموسم السابق فقلت المساحة المزروعة من البنجر لأن الفلاحين لا يضمنون شراء المصانع للمحصول، والمصانع لا تضمن شراء وزارة التموين للسكر، فأنخفض الإنتاج المحلي من السكر لأول مرة له منذ عقود، حيث كشف تقرير لوزارة الزراعة المصرية فى سبتمبر 2016 أن الانتاج المحلي من السكر بلغ إجمالي من البنجر حوالي 1.25 مليون طن، بما يمثل حوالي 57% من إنتاج السكر، بينما بلغ إجمالي إنتاج سكر القصب حوالي مليون طن، بما يمثل حوالي 43% من إجمالي إنتاج السكر في مصر، وإجمالي الاستهلاك المحلي من السكر بلغ نحو 3.1 مليون طن سنويًا، ما يعنى أن هناك فجوة في الاستهلاك قدرها حوالي 900 ألف طن من السكر في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمة كبيرة في توفير الدولار لاستيراد السكر، ومن هنا بدأت الأزمة.
بدأت أزمة السكر في مصر في ظل سياسة حكومة تتعامل بعقلية التاجر الشاطر المهتم فقط بزيادة هامش الربح وعدم المسؤولية في متابعة الأوضاع العالمية التي أصبحت تنعكس بشكل مباشر على السوق المحلي، فتقاعس كل من الحكومة والبرلمان عن القيام بتشريعات تحمي المنتج المحلي وتدعم الفلاح وتشجعه على الاستمرار والتوسع في الزراعات الاستراتيجية مثل القمح والأرز والقصب على سبيل المثال لا الحصر، لم تدرك الحكومة وقتها أن الحفاظ على صناعة السكر المحلي ودعمه أمام السكر المستورد سوف يحافظ أيضا على مجموعة من الصناعات التكميلية المهمة مثل صناعة الورق، والأخشاب، والأدوية، وغيرها من الصناعات التكميلية التي تقوم على مخرجات إنتاج السكر من قصب السكر.
ليست هي المرة الأولى وللأسف لن تكون الأخيرة، ففي السابق أدت سياسات حكومية مشابهة لانهيار زراعة القطن المصري الذي كان فخر الزراعة المصرية وسط العالم، وربما تؤدي سياسة الدولة اليوم فى استيراد الأرز على حساب الانتاج المحلي لأزمة مشابهة، فبعد أن حددت الحكومة سعر شراء الأرز من الفلاح بـ 2300 جنيه للطن الحبة الرفيعة، و2400 للطن الحبة العريضة، ووقف تصدير الأرز في أغسطس الماضي لتحقيق الاكتفاء وإنهاء أزمة ارتفاع سعره، رفض المزارعون بيع الأرز؛ نظرًا لانخفاض السعر الذي حددته الحكومة، فقررت الحكومة استيراد 500 ألف طن من الأرز كمخزون استراتيجي بأسعار 410 دولار للطن الواحد، فبدلًا من أن ترفع سعر الشراء من الفلاح المصري وتدعم زراعة المحصول الاستراتيجي، ألقت بهموم الفلاح عرض الحائط وشجعت الاستيراد بأضعاف السعر الذي كان من الممكن أن يرضي الفلاح، وهذا يفتح ملف آخر وهو ملف السماسرة الذين يحصدون المليارات من خلال صفقات التوريد المشبوهة على حساب الأمن الغذائي المصري الممثل في الإنتاج المحلي والزراعة المحلية.
في الختام، نؤكد على أهمية تغيير سياسات الدولة والتحول من تشجيع الاستيراد للسلع الاستراتيجية إلى تشجيع الاكتفاء الذاتي منها وخصوصا السلع التي تمس كل أسرة مصرية ويسبب عدم توافرها أزمة حقيقية، فالحكومة ليست تاجرا يقوم بالتركيز فقط على العرض والطلب وهامش الربح، بل هي المدير المسؤول عن توفير احتياجات المواطنين، ونؤكد أيضا أن تحميل التجار الأزمة ليس منطقيا، لأن التجار لا يصنعون الأزمات، بل يستغلون الأزمات لتحقيق الأرباح، فلولا عدم وجود أزمة في السكر أو الأرز أو غيرها، لن يحتاج التجار لتخزينه في الوقت الذي يسعي فيه التجار إلى سرعة معدل دوران رأس المال.