شاهدت فيلما تسيجيليا بريطانيا عن ما يسمونه البريطانيون حرب السويس، وما نسميه في مصر العدوان الثلاتي، أو حرب ١٩٥٦.
شمل الفيلم فقرات مطولة عن تاريخ قناة السويس، والنزاع بين مصر وبريطانيا على مر السنين.. احتوي الفيلم على فقرة مطولة عن ٢٥ يناير ١٩٥٢ والمعركة التي دارت بين الجيش البريطاني المسيطر على منطقة قناة السويس، والشرطة المصرية التي كانت متمركزة في مبنى مديرية الأمن، أو مبنى محافظة الإسماعيلية.
الإنجليز حاصروا المبني، ودارت حرب شعواء بين الطرفين، استمرت حوالي ٢٤ ساعة، انتهت بانتصار الإنجليز، وقتل عدد ضخم من رجال الشرطة المصرية، والقبض على عدد أكبر منهم.
من ضمن المشاهد التي أتذكرها في الفيلم، انتصاب البريجادير البريطاني المنتصر لتحية ضابط الشرطة المصري الأقل منه رتبة، كنوع من الاحترام لبسالته وقيادته البطولية لرجاله.. رد ضابط الشرطة المصري التحية العسكرية.. ضابط الشرطة المصري نفسه ظهر في الفيلم التسجيلي يسرد القصة بالكامل بلغة إنجليزية ممتازة.
أصرار الضابط المصري على عدم إخلاء المبنى، تطبيقا لاأوامر صدرت إليه من قيادته ومن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية نفسه، وعلى ما اتذكر بعد بداية المعركة، انقطع الاتصال التليفوني تماما بالمبنى.. قتل في هذه المعركة ما يزيد عن الخمسين من رجال الشرطة المصرية قبل الاستسلام في النهاية، وطبعا الاستسلام أو الفناء النهائي كان أمرا محتوما.
الجيش البريطاني كان يقوم بدور الجيش المصري في هذه المنطقة.. هذا إذن كان صراعا كاملا بين الشرطة والجيش المسئولين عن هذه المنطقة. لم يكن هنالك احتمال أو إمكانية لوصول أي مساعدات أو إمدادات للشرطة في الإسماعيلية.. كانوا منعزلين تماما عن العالم وفي حالة حرب مع الجيش البريطاني بكامل قوته وقدراته ومعسكراته وقدرته على الحصول على دعم إضافي ومعدات ودبابات.. إلخ.
الدور الذي لعبته الشرطة في ذلك اليوم كان دورا وطنيا، لكنه لم يكن عملا من أعمال الشرطة المعتادة.. بطولة الشرطة المصرية في ذلك اليوم كانت في آداء عمل عسكري، الدخول في حرب مع الجيش البريطاني ورفض الانصياع لرغبة الجيش البريطاني الموجود على الأراضي المصرية بقوة القانون المصري والدولي طبقا لمعاهدة ١٩٣٦، التي أعطت مهمة حماية وتأمين قناة السويس والمناطق المحيطة بها للجيش البريطاني.. إلغاء النحاس باشا لمعاهدة ١٩٣٦ قبلها بأشهر لم تقبله بريطانيا، لأن المعاهدة كانت تنص على المراجعة في عام ١٩٥٦، بعد مرور ٢٠ عاما على تطبيقها.
الإلغاء من طرف واحد كان خروجا عن بنود المعاهدة، وبنود المعاهدة كانت تنص على التحكيم أمام عصبة الأمم (الأمم المتجدة لاحقا)، لكن رغم الموقف القانوني الشائك، وقفت الحكومة والشرطة المصرية مع الرغبة الشعبية.
اختيار يوم هذه الواقعة بالذات كيوم عيد للشرطة يحيرني، وتدور أفكار مختلفة في عقلي عن هذه الواقعة.. هل كان تطبيق الأوامر والتضحية بحياة العديد من رجال الشرطة عملا صائبا؟ لم يكن الانتصار على الجيش ممكنا، وفي النهاية استسلم الضابط وباقي رجاله وقبض عليهم من قبل الجيش البريطاني المتواجد في تلك المنطقة \”قانونيا\”.
بلا جدال الدور الذي لعبته الشرطة ذلك اليوم، كان دورا وطنيا باسلا، لكنه لم يكن عملا شرطيا أو بوليسيا، بل كان عملا حربيا عسكريا.
الرغبة الشعبية العامة في هذه الحقبة، كانت مع إنهاء التواجد البريطاني العسكري في مصر، والصراع بين المصريين والجيش البريطاني شمل استقالات وإضرابات ومظاهرات وتفجيرات.. حكومة النحاس كانت منحازة لأي عمل ضد القوات البريطانية، واتهمت بريطانيا الشرطة المصرية بالتواطأ مع الفدائيين.
هل من قرر اختيار ٢٥ يناير عيدا للشرطة، أخذ في اعتباره عسكرية الشرطة؟ مواجهتها للسلطة العسكرية الرسمية وانحيازها للرغبة الشعبية والتعليمات من الحكومة بتجاهل الوضع القانوني المعقد؟
تعاقبت الأحداث، ووصلت الإضرابات إلى القاهرة في اليوم التالي ٢٦ يناير ١٩٥٢، وبعد مقتل وأسر رجال الشرطة في مذبحة الإسماعيلية، جلس قادة الشرطة والجيش المصري مع الملك فاروق في قصره احتفالا بعيد ميلاد ولي العهد.. واحترقت القاهرة!
أقال الملك فاروق وزارة النحاس باشا، وبعد أيام وفي شهر فبراير أفرج الجيش البريطاني على أسرى الشرطة.
اجهل الكثير من أحداث تلك الأيام، وإعادة كتابة تاريخ ما قبل حركة الضباط الأحرار في الحقبة الناصرية، يضع أمامنا العديد من الأسئلة بلا إجابات واضحة.