آخر جملة في كتاب منى الطحاوي \”الحجاب وغشاء البكارة\” هي: \”تقول الكلمات: نحن هنا\”.. صدر كتاب الطحاوي بالإنجليزية في أوائل العام الماضي وتمت ترجمته ونشره في العديد من دول العالم.. هذه المراجعة للنسخة الأصلية الأمريكية.
يثير اسم منى الطحاوي الكثير من الجدل في الحركات النسوية المصرية، وتتعرض للهجوم من تيارات مختلفة لأسلوبها تارة ولمواقفها تارة أخرى. هذه المراجعة ليست دفاعا عن أو هجوما على شخصية الطحاوي ولكنها فقط كما يقول العنوان مراجعة لكتاب غاية في الأهمية، يقراه العالم حولنا، ولكنه غير متاح إلى الآن لقراء اللغة العربية.. دعنا نراجع كلمات الكتاب متجردين من الأحكام المسبقة عن الكاتبة وعن العنوان.. دعنا نبحث ماذا تعني الطحاوي بهذه الجملة وماذا تقول هذه الكلمات؟
تحطيم التابوهات:
تستعين الطحاوي بخبرات الحركات النسوية العالمية وبالأخص من الأمريكيات ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية، تعرض العديد من رائدات الحركات النسوية ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية للهجوم بأنهن يسببن زيادة العنصرية ضد السود والمكسيكيين لنشرهن الفضائح الخاصة بهذه المجتمعات، تسرد الطحاوي نقاش هؤلاء السيدات لفكرة تأجيل تحقيق المساواة للمرأة لما بعد تحقيق المساواة العنصرية وتوضح أنها ما هي إلا محاولة للدفاع عن الأمر الواقع.. الظالم! الصمت هو السلاح الأساسي الذي تستخدمه المجتمعات الذكورية لإخضاع النساء، الصمت هنا هو صمت المرأة، سكوتها عن الظلم والمعاناة! ولذا بدأت الطحاوي بنفسها ورغم المرارة وصعوبة تجاربها الشخصية، سردت الطحاوي بالتفصيل معاناتها الشخصية من التحرش كطفلة في السعودية وفي مصر، وتقدم بالتفصيل قصتها مع العنف الجنسي في شارع محمد محمود وما تعرضت له بعد اعتقالها.
الحجاب وغشاء البكارة ليس كتاب مذكرات منى الطحاوي، لكنه كتاب عن الواقع الذي تعيشه النساء في الدول العربية، تجاربها الشخصية ما هي إلا جزءا من تجارب عديدة تقدمها لنا من قصص من نساء قابلتهن بنفسها أو قرأت ما كتبن أو كتب عنهن.. الكتاب يقارن بين الواقع في المجتمع وما هو معلن.. تقارن الحقيقة التي تعيشها النساء مع المواقف الرسمية للدول، وما تقوله الدول علنا في المحافل الدولية ونص القوانين.. تقارن الطحاوي بين ما يقوله رجال السياسة والدين عن حماية وصون للمرأة، وما تعيشه النساء كواقع حي.. هذا ليس بكتاب مقالات أو آراء، لكنه بحث جاد مليء بالمصادر، يستخدم القصص الشخصية للكاتبة وعشرات آخرين لتقديم صورة لواقع المعاناة.. هذا ليس بكتاب سهل على القارئ، ولي فقط أن اتخيل الصعوبة والمعاناة في كتابته.
تصرخ صفحات الكتاب ضد العنف والتمييز الذي تتعرض له المرأة في العالم، تصرخ الصفحات ضد انعدام المساوة، بل والعبودية التي تتعرض لها النساء في كل مراحل الحياة.
يناقش أحد الأبواب موضوع العذرية، وتقدم الطحاوي دراسة مفصلة عن الختان وقص وتشويه البنات كما تسميه الطحاوي، وتاريخه وأنواعه في البلاد المختلفة.. قرأت معلومات جديدة لم اعلمها من قبل رغم قرآتي و كتاباتي في هذا الموضوع. لم اكن اعلم عن الممارسة الواسعة لأنواع من الختان في دول الخليج العربي.. ربما يساهم النشر الواسع لهذا الكتاب في إلقاء بعض الضوء على المجتمعات التي يتفشى فيها الختان بدون حوار أو مناقشات، وبعيدا عن عيون الصحافة والمنظمات الدولية.. صدمت تماما عندما قرأت عن ممارسة الختان حتى فترة ليست ببعيدة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكما أشارت الطحاوي نجاح بعض المجتمعات في القضاء على هذا النوع من التعذيب البدني والنفسي للبنات يقدم لنا نوعا من التفاؤل بالقدرة على القضاء على تلك العادة البغيضة.
ربما يكون الجزء المتعلق بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية في الدول العربية أهم ما في الكتاب وأقربه إلى أجندات الحركات النسوية في مصر والعالم العربي.. تقدم الطحاوي دراسة مستفيضة من دولة عربية إلى أخرى عن الوضع القانوني للمرأة، وتقود القارئ إلى استنتاج أن القوانين في العالم العربي كله تعاني من ذكورية بشعة وتعامل النساء كالأطفال وأحيانا كسلع أو ممتلكات.. نقرأ عن امرأة من دولة الإمارات تجاوزت الخمسين، متعلمة وناجحة ولكنها تحتاج موافقة رسمية من ابنها ذو التسعة عشر عاما للزواج.. نقرأ عن رجال الشرطة والإنقاذ في لبنان عاجزين عن دخول بيت زوج عذب زوجته، لم يتمكنوا من دخول \”حرمة\” البيت لأنها مسألة عائلية خاصة بالزوج، ماتت الزوجة ولم ينقذها رجال الإسعاف أو الشرطة.. مشكلة عائلية خاصة بين الزوج وامرأته! تحدثنا الطحاوي عن غياب قوانين العنف الأسري والمعاملة القانونية للاغتصاب وتشجيع من تقع فريسة للاغتصاب بالزواج من الجاني في البلاد المختلفة مع تقديم أمثلة حية وفي بعض الأحيان تصريحات سياسية أو نصوص من القانون. نكتشف معا أن السعودية وهي رمزا للرجعية في الدول العربية نجحت في إصدار قانون لتجريم العنف الأسري قبل لبنان رمز التحرر والتقدم!
تقدم الطحاوي فكرة ذكورية المجتمع والتقاليد كفكرة مستقلة تماما عن الدين.. تجنبت الطحاوي الخوض في الدين أو التفاسير المتباينة ولكنها قدمت قصة السيدة خديجة كامرأة مستقلة، تعمل بالتجارة وتتعامل مع رجال كمرادف لصورة المرأة التقليدية في الإسلام.
اوضحت الطحاوي وجود عملية انتقاء ذكورية فيما يكتب عن الإسلام.. أمامنا قصص وتفاسير مختلفة ولكن المجتمع الذكوري يختار ما يناسبه من الإسلام للتشريع والتبني ويتشدق بالقصص والتفسيرات التي تؤيد استقلال المرأة وكيانها وإنسانيتها.
تحطيم التابوهات انتقل إلى مواجهة الإدعاء الشائع بأن النساء في الحقيقة يحكمن في المنازل، وأن المرأة العربية والمسلمة هي سيدة البيت. الحقيقة كما قدمتها الطحاوي أن النساء في البيت تعملن في خدمة الرجال بدءا من مراحل الطفولة وأن فكرة المرأة القوية في البيت ما هي إلا أسطورة يشجع المجتمع المرأة على تصديقها من أجل الحفاط على الذكورية الظالمة ومحاولة لتجنب الخوض في وضع المجتمع الظالم البعيد عن المساواة. كذلك لم تخجل الطحاوي من انتقاد الذكورية في الربيع العربي.. رغم المشاركة الواسعة للمرأة المصرية والعربية في ٢٥ يناير وغيرها، ورغم وقوف النساء كتفا بكتف مع الرجال في الميادين، العديد من الرجال في الحقيقة غاية في البعد عن الإيمان بمساواة المرأة لهم في الحقوق وغير مستعدين لقبول حرية ومساواة المرأة للرجل. الأغلبية تريد إسقاط النظام الظالم كأولوية وترى أمورا مثل حقوق المرأة ثانوية، تأتي لاحقا.
اعجبني في الكتاب طريقة الطحاوي في تقديم آرائها بوضوح والاستدلال بالحقائق لتأييد قناعاتها. ولكن هناك نقطة مركزية في الكتاب وهي استحالة نجاح الثورات السياسية بدون ثورة نسوية اجتماعية لتحقيق المساواة، ترى الطحاوي أن ثورة المرأة والمساواة ضرورية لنجاح الثورة السياسية. في هذه النقطة المركزية فشلت الطحاوي في تقديم ما يساند هذه الفكرة.. ربما نظرة سريعة إلى تاريخ الثورات في العالم ترينا موقفا مغايرا للطحاوي. دعنا ننظر إلى توقيت حصول المرأة على حق التصويت في الولايات المتحدة أو بريطانيا، قرون عديدة بعد ثورات سياسية ناجحة، رغم تأييدي لرغبة الطحاوي، إلا أنني ارى هذا الاستنتاج مشابه للفكرة المثالية القائلة بإن الظلم لا يقيم الدول والمجتمعات.. الحقيقة مختلفة والتاريخ لا يؤيد هذه المثالية الروحانية الجميلة.. الأنظمة الاستعمارية، تجارة العبيد ونظام العبودية، الدولة الرومانية، دولة المماليك، احتلال الصين للتيبت، إسرائيل.. كلها أدلة على أن الظلم قادر على النجاح والاستمرارية، ربما تكون هنالك نقطة أخرى وهي استغلال مناخ الثورية السياسية في تشجيع النساء على مواجهة الظلم الذي يتعرضن له في أسرهن والمجتمع، ولكن إشارة الطحاوي لها كانت عابرة ولم تطورها كفكرة متكاملة مستقلة.
شجاعة الطحاوي في الدفاع عن قضيتها، الحرية والمساواة الكاملة للمرأة، استمرت في الغرب وليس فقط في الشرق.. تنتقد الطحاوي صمت الإدارة الأمريكية عن انتهاكات حقوق النساء في الدول الإسلامية بحجة أنها نوع من الاحترام للتقاليد الدينية واستخدمت موقف الوزير جون كيري أثناء زيارته للسعودية ورفضه الحديث عن حق النساء في قيادة السيارات. كذلك لم تصمت الطحاوي على البعض من التيارات اليسارية في الولايات المتحدة الذين يختارون الصمت على انتهاكات بشعة بحجة تقبل ثقافة الغير.
قدمت الطحاوي تحديا واضحا لمن يسكت على الظلم واسمته بالعنصرية والاستشراق الجديد.. هولاء اليساريون يقيمون باختيارهم أسقفا لحقوق المرأة في المجتمعات العربية، الشرقية، الإسلامية، ويعتقدون أنهم بهذا الأسلوب تقدميون، لكنهم في الحقيقة يشاركون في رجعية بشعة ويمارسون العنصرية النسبية.
\”الحجاب وغشاء البكارة\”، كتاب مهم بقلم كاتبة شجاعة، يتهم العديد منى الطحاوي بأنها تكتب للغرب، وربما عدم نشر هذا الكتاب إلى الآن بالعربية هو أفضل دفاع.. حقق الكتاب نجاحا واسعا من نيجيريا إلى الهند، وتشارك الطحاوي في منتديات فكرية في شتى بقاع الأرض، لكن لا يوجد منبر متاح لها في مصر والعالم العربي.
الكتاب يكشف الكثير من القبح في مجتمعاتنا ويسلط الضوء على ما نخشاه، ويناقش قضية غاية في الأهمية من عدة جوانب، بجرأة وشجاعة، لكنه أيضا يحتوي على الأمل في مستقبل أفضل.
الطحاوي تقدم لنا العديد من الأمثلة من المغرب إلى السعودية، عن شجاعة المرأة في السعي للحرية والمساواة.. السكوت عن الظلم هو الاستسلام له، الاستسلام لذكورية وظلم المجتمعات والنساء الشجاعات اللاتي يرفضن الصمت ويتحدثن ويكتبن ويقدمن البلاغات ويرفعن القضايا ويقصصن قصصهن ويحكين حكاياتهن، يتحدين بالكلمات الظلم و يقلن نحن هنا.. بكلماتنا نقول: نحن هنا!