أميمة صبحي تكتب: نكتب لأننا لم نستطع تغيير العالم

تبقى أليس مونرو الأقرب إلى قلبي.. امرأة قروية تعيش حياة هادئة بلا صخب.. تؤكد لي أن هموم المرأة واحدة سواء كانت تعيش في العالم الأول أو هنا بالعالم الثالث.. تزوجت في بداية العقد الثاني من عمرها.

تقول: \”كان هناك ضغوط عظيمة حتى أتزوج، وشعرت أن الزواج أفضل وسيلة للخروج من هنا.. قلت لنفسي: حسنا سأتزوج وحينها سيكفوا عن ازعاجي. سأصبح إنسانا حقيقيا وأبدأ حياتي.. اعتقد إني تزوجت لأكون قادرة على الكتابة\”، ورغم ذلك تقول عن نفسها إنها طالما شعرت من أعماق قلبها أنها عانس عجوز.

كانت تتوق للحياة المشابهة لعائلات الطبقة الوسطى، فابتاعت مع زوجها منزلا خاصا وأسرعت في الإنجاب.. أصبحت أما وهي لم تتجاوز الواحدة والعشرين بعد. أصابتها الاحباطات أثناء حمله. حتى إنها كانت تجلس لساعات طويلة تكتب وتدون أفكارها وقصصها، لأنها كانت على يقين من عدم عودتها للكتابة بعد الإنجاب.

لكنها عادت.. لم يتوقف سيل الإبداع. كانت تكتب أثناء قيلولة بناتها حين كن صغارا في مرحلة ما قبل المدرسة.. تجلس من الساعة الواحدة حتى الثالثة ظهرا. تقول: \”اعتدت العمل حتى الواحدة صباحا والاستيقاظ في السادسة.. اتذكر أني فكرت أني على وشك الاحتضار.. كان التفكير في احتمالية إصابتي بأزمة قلبية أمر مفزع.\”

فتر الحب بينها وبين زوجها، لكنها لم ترحل. أبقاها واجبها تجاه أسرتها ومكتبة صغيرة. كانت توزع وقتها بين الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال والعمل بالمكتبة التي أسسها زوجها. مثلها مثل أي ربة منزل مسكينة يسكنها شبح الإبداع ولا تقوى على صرافه، فقد قالت ذات مرة: \”لم أتخذ قط قرارا يخص الكتابة، ولم أفكر أبدا في التوقف عنها رغم كل شئ\”.

بقيت زوجة وأم لعشرين عاما، رغم كل الصعوبات وتوقف الحياة داخلها.. تعترف أنها لم تكن مستغرقة في الأمومة بشكل كامل بسبب هوس الكتابة وتخشى أن يعتقد أطفالها أنهم مجرد متاع تالف في حياتها. تحكي عن ابنتها حين كانت في الثانية من عمرها، جاءتها حيث تعمل منكبة على آلتها الكاتبة، فحاولت إبعادها بيد، بينما استمرت يدها الأخرى في الكتابة. وتعرب عن ندمها بعد ذلك على تلك الأيام.

إنها إنسانة حقيقية، لم يكن لديها الوقت الكاف لصراعات داخلية، لكنها خاضت معارك مع مطبخها وآلتها الكاتبة. وسارت صراعات بين قدميها الواقفة بالمكتبة الصغيرة وبين عقلها المشغول بإحدى قصصها التي عليها تدوينها.. تلك المكتبة التي ربما كانت سببا في استمرار زواجها لكل هذه المدة.

ورغم ذلك تقول عن نفسها: \”أنا في الاتجاه المقابل للكاتب ذي الموهبة الرشيقة، الشخص الذي يمكنه تحويل فكرته لكتابة.. ليس في مقدوري استيعاب هذا بسهولة، فأنا افعل ذلك حين ابدأ في العمل فحسب، وغالبا ما اتجه للاتجاه الخاطئ، ثم اسحب نفسي لطريق العودة\”.

هكذا، تقرر مونرو البقاء في تلك البقعة النائية البعيدة عن العالم، كما قررت الاستسلام للمسئوليات مع زوجها الأول جيم.. اتساءل كثيرا، كيف لامرأة بكل هذا الهدوء والإتزان أن تبدع كل هذا الجمال الذي قادها إلى جائزة نوبل في النهاية.. امرأة عادية نشأت لأسرة فقيرة ليس فقط فقر ماديا.

تقول عن أمها: \”لم تكن أمي لتحب أعمالي. لا اعتقد ذلك – خاصة الجنس والشتائم.. لو هي على قيد الحياة، كنت ساضطر إلى خوض صراع عنيف وإحداث فجوة بيني وبين العائلة حتى استطيع نشر أي شيء.\” هذا رغم أن والدها كان قارئا لأعمالها، وكتب رواية قصيرة نشرت بعد وفاته، إلا أنها كانت ستعاني مع والدتها.

تحكي عن فقر أسرتها: \”قامت كاتبة نسوية بإسقاط شخصية \”أبي\” على إحدى شخصيات قصة \”حياة الصبايا والنساء\”. حللت الشخصية تحليلا له طابع السير الذاتية الموثقة. حولتني لشخص آخر آتى من هذه الخلفية البائسة، لأن لدي \”أب عاجز\”.. كانت أكاديمية في جامعة كندية، وكدت أجن، وحاولت أن أعرف كيف أقاضيها.. لم أكن أعرف ماذا أفعل، ثم فكرت أن الأمر سيان عندي، فلدي كل هذا النجاح، وفوق كل هذا فإن أبي يبقى أبي.. لقد رحل الآن.. هل سيُعرف بأنه أب عاجز بسبب ما فعلته به؟  ثم أدركت أنها نشأت في جيل أصغر بكوكب اقتصادي مختلف تماما. جيل عاش في حالة رفاهية – إلى حد ما – تحت مظلة التأمين الصحي، وليسوا على وعي بكم الضرر الذي قد يخلفه المرض داخل أسرة ما، ولم يمروا أبدا بضائقة مالية، وينظروا للأسر الفقيرة ويفكروا أن هذا اختيارهم، فعدم الرغبة في تحسين نفسك هو استهتار.. غباء أو ما شابه.. أنا مثلا نشأت في منزل ليس بمرحاضه باب، وهذا أمر مروع بالنسبة لهذا الجيل، شيء جدير بالازدراء، لكن في الحقيقة لم يكن الأمر كذلك، لقد كان ساحرا.\”

يقابل كل هذا الإتزان تخبط جومبا لاهيري في بداية حياتها.. الأمريكية إبنة المهاجرين الهنديين للولايات المتحدة في بداية الستينيات. في طفولتها تقرأ الكتب الإنجليزية عن حياة أسر انجليزية وأمريكية. تقول: \”كنت مدركة أني لا انتمي لهذا العالم الذي أقرأ عنه، لأن حياة أسرتي كانت مختلفة. فالطعام على مائدتنا مختلف والإجازات التي نحتفل بها مختلفة، فقد كان والداي حريصان ومرتبكان إزاء أي شيء مغاير.\”

كتبت الكثير من القصص الطفولية الساذجة أثناء طفولتها، لكنها توقفت بعد حين. \”قضيت النص الثاني من طفولتي أتهرب من المساحة الآمنة التي كانت الكتابة قد وفرتها لي، فلقد تحول نشاط الكتابة الغريزي السابق إلى شيء شائك لا يمكن لمسه، واقنعت نفسي أن الكُتاب المبدعين هم الآخرون، أما أنا فلست منهم، وبذلك ما أحببته عندما كنت في السابعة، أصبح في السابعة عشر أكثر ما يرعبني\”.

\”وفي الواحدة والعشرين، أصبحت الكاتبة بداخلي كذبابة بالغرفة، كنت على قيد الحياة، لكني أشعر بالدونية وبلا هدف.. كان دائما هناك شيء ما يكدرني، كلما نضجت كنت أكثر وعيا له، وقد تركني كل هذا وحيدة. لم أكن على المسرح حتى أقلق من رفض الآخرين لي. كنت على ثقة أني رفضت نفسي بالفعل قبل أن يأخذ شخص آخر هذه الفرصة\”.

ذلك التردد والانعزال الذي خلفته الهجرة وراءها، وتركت بصماتها في روح لاهيري الهائمة، كانت كالقشة الضعيفة التي تود الانقسام لترتاح. \”أردت أن اكون مجهولة وغير مميزة، حتى أبدو مثل الآخرين، لأسلك مسلكهم. لأتوقع مستقبلا بديلا، وأحصل على إنطلاقة من ماض مختلف. كان هذا إغواء، للارتياح من فكرة محو هويتي واعتماد أخرى\”.

ثم بعد تخرجها وانتقالها إلى بوسطن، نشأت صداقة بينها وبين إبنة شاعر، وانتقلت للعيش معهم بمنزلهم طوال فترة الصيف، وهناك رأت الأب الشاعر وهو منكب فوق طاولة صغيرة يكتب فوقها.. هناك قرأت العديد من الكتب، وحينها قررت إحياء الحلم القديم وتصبح كاتبة.. لم يهاجمها والداها، لكنهما قابلا ذلك الخبر بشيء من الفتور وعدم الاكتراث، وأملا أن تكون مشاريع ابنتهما في صالح شهادة الدكتوراه في النهاية.

بعد إحرازها بعض النجاحات الملحوظة تقول: \”شعرت أن كتابتي للقصص ما هي إلا إثبات شيء ما لوالدي.. احاول أن أخبرهما أني افهم بطريقتي الخاصة، وبكلماتي الخاصة، المحدودة لكنها دقيقة، العالم الذي جاءوا منه. لقد عرفت دوما أني كنت الطفلة الأمريكية التي قاموا بتربيتها، كنت مثل كائن فضائي بالنسبة لهم رغم كل هذا القرب\”.

من الطبيعي أن ينتج كل هذا الاغتراب، ذلك الإبداع. وأن تفرز الصراعات الداخلية الأدب والخيال الخصب، لكني أتوقف دوما أمام واقعية مونرو، اليد التي تكتب، والأخرى التي تمنع ابنتها أو ربما تهدهدها وتزيل مخاط بكائها وتنظف بها برازها، دون التوقف لحظة لتسكين صراعات داخلية، ليس لأنها غير ظاهرة، لكن لأنها لا تجد الوقت لتفعل ذلك.. لأنها تريد توفير الوقت للشيء الأهم فحسب.

تقول الشاعرة سارة عابدين معبرة عن إحباطات الأمومة والحياة في قصيدتها (طريقٌ يتجه لأعلى)

طريقٌ يتجه لأعلى

صورةُ الفتاةِ التي انتحرت سأستغلها أسوأَ ما يكون

سأنظرُ لها وأبكي لأجِد طُرُقا جديدةً تنفتِح للكتابة

عن مشاعرَ لم أجربها بعد

سأضعُها أمامي وأنا أُطعِم صغيرتي الأرز

وأمامي وأنا أحل مسائلَ الرياضيات لحبيبتي الكبرى

لأقولَ لهُمَا في كلِّ لحظةٍ

أنا أكتبُ لأنني لم أستطع أن أغيِّرَ العالم

لم أستطع حتى أن أغيِّر السجادةَ فاتحةَ اللون

التي تَظهَر بها كل البُقَع الصغيرة

التي تَصدم عيني في كل مرة أنهضُ فيها من السرير

في السادسةِ صباحا يصبِح الرقم (اثنان) رقما كبيرا

عقلي المضطرب غير قادرٍ على استيعاب الأرقام والعمليات الحسابية

رأسي المشبع بالحُلم ما زالت تختلط به طلقات الرصاص على خلفية موسيقى الفالس

مِن فوق سطح العالم أقذفُ باقةَ الوردِ الذابل؛ حتى لا يأخذ حيزا في دولاب ذاكرتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top