لم يكن الصبي مدركا معنى كلمة \”عبد\”.. كانت أمه تحكي له عن بلاد الذهب التي عاشوا بها قديما، فتخيل النوبة مكسوة تماما بالذهب.. أشجارها وشوارعها وأنهارها الصغيرة.
كان جميلا.. عيون صغيرة تتسع للعالم وشعر فاحم السواد ناعم، وسمار يليق بالوجهاء، ولكن كل هذا لم يكن ذو أهمية طالما أنه داكن البشرة.. مختلف عن ما هو سائد.
تحمل كلمة \”عبد\” التي يرددها زملاؤه بالمدرسة بصمت، ولم يخبر أمه السوداء بدورها حتى لا يجرح شعورها، واكتفى بتفوقه الدراسي الرياضي ليكون رد حاسم على تلك الإهانة. ولكنه عرف مدى فداحة الأمر عندما طلبت معلمته صورته لتضعها في لوحة الشرف، فسمع ضحكة من انجذب إليها مكتومة ساخرة.
ثم لم يعد صبيا.. شب رجلا، وتزوج امرأة بيضاء، وواجها التعليقات السخيفة معا. إلى أن أصبح أبا. وبدأت ابنته، داكنة البشرة، تتلمس خطواتها في عالم قبيح، عنصري بطبعه.. يشير إليها بالقبح.. فقط، لأنها سمراء، واستمر هو في تحمل تبعات لون بشرته دون أن يخبر والدته.
يحكي الكاتب الدانماركي اندرسن في \”فرخ البط القبيح\”، عن فرخ صغير يعاني من سوء معاملة الطيور لمظهره القبيح المختلف حتى إنه لا يجد أي ميزة في تجاوز كلب له دون أن يمسه، فيقول: \”أنا قبيح للغاية، حتى إن الكلب أبى أن يعضني\”. ويضطر إلى الرحيل وترك أسرته للبحث عن جماله الخاص. وفي النهاية يكافئه الكاتب بتحويله لطائر أبيض جميل بعد تلك المعاناة.
تعلقت ابنتي بتلك الحكاية بشدة، وتظل تحكيها وتقصها عليَ قبل نومها. لم أكن أدري أن حكاية بسيطة كتلك ستجعل عقلها الصغير يفكر كثيرا في ماهية الجمال، وكيف يراه الناس.. تتساءل عن الجمال الداخلي الذي يؤكد عليه أندرسن، وعن لون بشرتها الداكن الذي في وسعه أن يصبغ ملابسها.
ابنتي ذات الأربعة أعوام تقف في وجه من يشير إليها بـ\”الوحشة\”، وتخبره بقوة: \”لأ، أنا حلوة.. أحلى منك\”، ثم تأتي إلي لتقارن بين لون كفها ولوني.. تخبرني أن لوني أبيض وشعري بني، بينما هي أقل جمالا بسبب الألوان الأغمق، فأصبغ شعري باللون الأسود من أجلها وأعلمها تدرج الألوان لتعرف أن لوني \”بيج\”. وأني انتمي إليها وإلى جمالها.
يضع الجهلاء اللون الأبيض في جانب الجمال تماما كما فعل أندرسن عندما جعل الطائر القبيح رمادي اللون، وتعلق انتهاء معاناته بتحوله لطائر أبيض جميل المظهر.. لم تختلف الثقافات كثيرا إذن، ونرى احتفاءا بالغا بوصول هالي بييري الأمريكية السمراء إلى قائمة أجمل نساء العالم,, ليس لأنها بالفعل جميلة، بل لأنها سمراء! ولا يمكننا أن ننسى لحظة تولي أوباما حكم الولايات المتحدة، والترحيب العالمي، وبالطبع لم يكن السبب كفاءته.
في حكاية أخرى أكثر غرابة، كانت الأم سمراء جميلة والأبنة بيضاء أقل جمالا. لكنها حصلت على صك المجتمع للفتاة الحسناء فقط لأنها تطابق مواصفات الجمال المطلوبة. ولم تختلف دهشة كل من يلاقوهم بالمواصلات العامة والمتاجر والشوارع والأفراح، بل وفي الجنازات كذلك من قدرة الأم الداكنة البشرة على صنع طفلة جميلة فاتحة اللون، عن دهشتهم حين يروا النموذج المخالف، فاللوم يقع دائما على أصحاب البشرة الداكنة.. كيف تسنى لكِ عزيزتي السمراء أن تلدي طفلة بيضاء شديدة الجمال هكذا؟ أهي ابنتك؟ متأكدة؟!
حين تكونين أما لطفل مختلف، فإنك تدربين نفسك على كل الاحتمالات.. تقفين أمام المرآه وتبتسمين في برود، وتبدأين في التمرن على كل ردود الأفعال.. تفكرين فيما ما قد يحدث أمام طفلك، وتهيئين نفسك لحمايته من التعليقات المسمومة.
قد لا تجدي ردود سريعة في حينها أمام جبروت المتحدث ومدى تجحشه وقسوته، لذا لا تتركي \”هفوة\” دون أن تحسبي حسابها.. ضعي الخجل جانبا، وتغلبي على حيائك. فإنك ستواجهين الكثير، وسيكتسب ابنك/ابنتك مهاراتك الدفاعية بالتدريج. بدأت ابنتي تردد أنها جميلة في وجه الجهلاء، بعدما سمعت دفاعي هذا مئات المرات، ربما منذ كانت رضيعة لم تتعرف على وجهها في المرآه بعد.
تعلمي أن تكوني قوية وحازمة، فالفرخ القبيح لم يكن ليترك والدته لو كانت حازمة في دفاعها عنه، وما كان للصبي أن يصمت ويتماسك بمفرده أمام من أطلقوا عليه كلمة \”عبد\” لو كانت أمه قوية، لا تنجرح بسهولة.
أعرفي أن طفلك يستمد ثقته بنفسك من مدى ثقتك أنتِ به.. لذا ثقي بجماله وبقدراته.. ادفعيه للعالم دفعا.. مسلحا بشخصية قوية تعرف مدى قوتها.
ومن صندوق الرسائل الخاص بي على فيس بوك حكايات كثيرة لفتيات سمراوات تقف بشرتهن عائقا أمام جمالهن المختلف.. تتلخص النصائح وتتماس في عدة نقاط مهمة: اعرضي على طفلك نماذج وصور لناجحين غامقو البشرة.. اظهري جماله في طريقة تصفيفة شعره وملابسه المهندمة.. زيني ابنتك بالحلى الملونة التي تليق بعمرها وملابسها.؟ علميه أن يعبر عن مشاعره ويرفض الإهانة بجرأة ويشاركك تجاربه، وأخيرا: لا تدعِ أندرسن يحول فرخك الصغير لطائر مناسب للمواصفات الإجتماعية، فطائرك له أغنيته الخاصة جدا التي تميزه عن الجميع، ولكنه لن يجد لها طريقا سوى من خلالك.