لم أكن طفلة جميلة.. عينان جاحظتان، ووجه نحيل هادئ غير مميز. أسير بقدماي اللتين تشبهان عيدان الكبريت، فأثير سخرية الجميع.. كان المثل الشعبي \”يا وحشة كوني نغشة\”، يتردد حولي كثيرا، ولكني لم أكن يوما \”نغشة\” ولم أحاول.
ترددت قليلا في ذلك الصباح البارد قبل أن أرد التحية.. كنت ارتدي نظارة شمسية فاخرة.. أقف أمام سيارتي الصغيرة.. كان الشارع الضيق لايزال ساكنا، وكل الجيران في سبات عميق. ظهرت جارتي من بوابة البيت المقابل لبيت عائلتي، وأدارت وجهها لي مبتسمة بإجفال وقالت: \”صباح الخير\”. في البداية لم اتعرف عليها، فلقد مرت سنوات دون أن ألمحها بالشارع في زياراتي القليلة بعد زواجي.
ولكني تعرفت عليها عندما أمعنت النظر.. تذكرت الطفلة البيضاء البضة التي طالما قارنت أمها بين قبحي وبين جمالها.. كانت فتاة جميلة ممتلئة الجسد، غير متفوقة دراسيا مثلي، ولكن هذا لم يكن بوابة للعبور إلى أي شئ في ذلك الحي الشعبي القديم.
تتفاخر بشعرها الكثيف في شرفتها. وتسابقني لحب محمد، ابن الجيران الوسيم، الذي طالما راقبته بقهر من وراء الشبابيك، والذي سيرحل بعد ذلك بسنوات قليلة بسبب السرطان.
تقول أمها إنها الأجمل من كل بنات الشارع. وتعبر عن هذا بأن \”الحلوة حلوة لو قامت من النوم، والوحشة وحشة لو استحمت كل يوم\”.
كنت أعرف أن فرص حصولي على انتباه محمد قليلة بجانب تلك الحسناء التي تنير شرفتها ببياضها الأخاذ. وتذكرت قول جدتي السمراء: \”ياريتني يا أمه كنت بيضة وبضة، أصل البياض يا أمه عند الرجال يتحب\”.. كانت جارتي المرشحة الأولى لكل خطاب الشارع وكل الشوارع.
عندما رأيتها في ذلك الصباح البارد، كانت نحيلة. ضربتها الشمس بسمرة شديدة. ولم أعد أنا تلك النحيلة الخجولة التي كنتها.. نظرت لوجهها من وراء نظارتي. لم أستطع رد التحية على الفور. فرأيت \”أوصة\” كثيفة توارت وراء الحجاب وجسد تعدى الثلاثين بقليل دون أي وصال مع الجنس الآخر، رغم كل مراهنات الأم وتحقيرها من شأني وشأن الآخريات الأقل جمالا. رأيت نظرة يأس شاحبة وخيبة أمل في الحياة. وأنا أعلم تماما أنها لم تر سوى امرأة ميسورة الحال، زوجة وأم، تنظر لها باستخفاف وتعالي من وراء نظارة غالية الثمن. وها قد وصلنا لـ \”لبس البوصة تبقى عروسة\”.
في يوم آخر، كنت انتخب. ونفس النظارة التي لا تفارقني مثبتة فوق أنفي. وجدت من تناديني. امرأة شابة، سمينة وبشوشة.. رحبت بي كما لو أنها تعرفني منذ زمن.. لم اتبين ملامحها في البداية، ثم عرفت أنها جارتنا الأخرى.. الفتاة الشقراء التي كانت ترتدي بدلة الكاراتيه ولديها حزام أصفر لم أعرف مدلوله حينها.. كان والدي يعمل ليلا ونهارا في عملين منفصلين تماما ليوفر مصروفات مدرستي الخاصة التي كانت من مدارس الصفوة حينها، ولم يكن أمر الألعاب الرياضية واردا حينها.
كان جسدها الضخم في مقابل بدلة الكاراتيه ذات الحزام الأصفر يزعجني. لم ابتسم لها أيضا، وودت لو أسألها أين البدلة الآن؟ هل تحتفظين بها في صندوق صغير أسفل فراشك؟ هل تركتيها في دولاب حجرتك في منزل والديك؟ لماذا رضيت بالزواج من ذلك المحدود الذي حولك لذلك الكائن الدائري الأبعاد؟ أهو \”ضل راجل ولا ضل حيطة\” أم \”الراجل ما يعيبه إلا جيبه\”؟
عندما كنا أطفالا، كانت تتجنبني أثناء مرورها بجانبي – أو هكذا خيل لي- كانت تعتز بجمالها الهادئ وتعبر عنه بطريقة أقل صخبا من الجارة الأولى، ربما لأنها أكثر ثقة.. الآن ترحب بي باهتمام وأنا اتفرس في ملامحها التي تغيرت، وتذكرت أنها أصغر مني بسنوات، ولكني الآن أبدو الأصغر. خفت ابتسامتها رويدا رويدا عندما لم أبادلها أياها، وشعرت بندمها على تحيتي. وأردت أن اعتذر بشدة، ولكني لم أستطع. وعندما أدارت ظهرها لي مبتعدة بخطى متعثرة، لم أكن أرى سوى ظهر طفلة شقراء جميلة وفي منتصفه حزام أصفر يعكس أشعة الشمس.
كانت الجارة الثالثة ضيفة دائمة في بيتنا. تشكو دوما من زوجها الذي يبرحها ضربا. ولكنها ترفض الطلاق وتقول: \”نار جوزي ولا جنة أبويا\” وتقول أيضا إنها \”ولية مكسورة الجناح\” ولن تستطع مواجهة زوجها بمفردها. كانت جميلة كذلك، لا تقل جمالا عن الجارتين السابقتين.
في الحقيقة كن جميعا يسكن في الناحية المقابلة لبيتي.. كانت الناحية البحرية من الشارع، وكأن الهواء الرطب عجن وجوههن وأجسادهن بالحسن. أما ناحيتي القبلية فلم تنتج سوى السمراوات النحيلات القبيحات اللاواتي إذا تعززن سمعن: \”أدلعي يا عوجة في الأيام السودة\”.
كانت الثالثة دوما حزينة وترغب بشدة في احترام زوجها لها. تعرف أن \”اللي يقول لمراته يا عورة، يتلعب بيها الكورة، واللي يقولها يا هانم يقفوا لها على السلالم\”.
ولكنها لم تكن تعرف سبيلا لذلك.. تشكو لأمي التي تنصحها بالصبر، و\”إن الست مالهاش إلا بيتها\” وأن عليها الطاعة حتى تسلم، وأن من باتت وزوجها غاضبا عليها، تلعنها الملائكة حتى الصباح.
كنت أمر بالصالة حين وصل الحوار لذلك المنعطف. لم أحاول المشاركة وابتعدت مسرعة للغرفة الأخرى. لكن لحقتني كلماتها: \”احلويتي!\”
ابتسمت هذه المرة، وأنا اتذكر العينين الجاحظتين والسخرية التي كانت تلاحق خطواتي. وقول إحداهن: \”أيش تعمل الماشطة في الوش العكر\”.