ذروة الأحداث ومفتاح الشخصيات \”سرحان وطارق\”، تجسدت في الحلقتين العاشرة والحادية عشر.
يستدعي موت تحية كل الأحزان التي مرت في حياتهما، فيتسامرا ويتذكرا طفولتهما وشبابهما في مشاهد درامية بديعة.
يفتتح سرحان المشاهد بمناجاة هاملت الرابعة \”نموت، ننام، لا شئ أكثر.. نقول إننا بالرقاد ننهي آلام القلب وآلاف المحن العادية.. نموت، ننام. هي نهاية ما أشد أن نتمناها، أن نموت أن ننام، لو ننام ربما نحلم.. هنا تكمن الصعوبة، لأنه في رقاد الموت أي أحلام تراودنا\”.
ثم يتبادلا الجمل من المسرحية ذاتها عن الموت والخيانة، ليصلا إلى ما في أعماقهما من حزن وفقد.
(طارق).. الوجه البهلواني الضاحك، ربما لأنه مازال يستطيع أن يحب، لكنه يقترب ولا يقترب، خشية الافتقاد.. نجده دائما يحتفظ بامرأة ما في حياته بعد رحيل نادية، ولم تكن أم هاني سوى أم بديلة، تقدم له بيتا وفراشا ساخنا دائما، مأوى ومال وحنان يعجز طارق عن العيش بدونهم بعد نادية الله يرحمها.
تلك الإجابة التي لم يستطع طارق تقديمها لتحية حين سألت عن علاقته بأم هاني، ولماذا هي تحديدا.
كان موت تحية بالنسبة له هو موت نادية ثانية.. حين ابتعدت تحية عنه لتتزوج عباس، لم يستطع منع نفسه من الذهاب إليها كل ليلة، والوقوف على بابها في يأس ورجاء، كطفل في مرحلة فطام، كل ما يرجوه أن تتنازل أمه عن قرارها، وتعطيه لبنا دافئا بلا حد أو قيد. ثم محاولة انتحاره بدلا من الحرب من أجلها.
في مشهد بديع، يرقد طارق على أريكة في وضع الجنين، وتراه أم هاني، فتبتسم ابتسامة أمومية رائعة، وتحتضنه، بينما هو لا يتحدث سوى عن نادية الله يرحمها: \”أنا ابن نادية الله يرحمها\”، ولا يذكر سوى مأساته مع أخيه سرحان، الذي ربما أنكره في البداية، ثم يربط كل هذا بتحية الله يرحمها، ويرددها كثيرا حتى يصدق، حتى لا يمكث ما بقى له من أيام في انتظار أن تفتح الباب وتدخل. ثم مشهد مناجاته الله: \”كنت سيبها.. تاخدها تاني ليه؟\”، يتحول سؤاله إلى غضب لرحيل نادية/تحية.
(سرحان).. الوجه الآخر للعملة.. النصف الحزين من وجه البهلوان.. يتضح لنا مدى اختلافهما في تبادلهما للتهم.
يقول طارق: \”إوعى تكون فاكر إنك مش بتمثل، أنا مش فاكر آخر مرة شفتك من غير وش، زي ما يكون ورثت طبع أبوك وقسوته، مع فلوسه.. كنت فاكر إنك هاتورث فلوسه وتجري منه؟.. كل يوم بيعدي، بتبقى كل حاجة كرهتها أمك فيه!\”.
كما لو إنه يعاقبها على خيانتها له، بتحوله إلى كل ما كرهته أمه في أبيه. يقول:
\”أنا حبيتها أوي.. بس عمري ما سامحتها\”، ومضى به العمر يحب \”قوي\”، لكن يجرح بعنف بدون سبب.. يهرب قبل أن يسمح لمشاعره بالتورط العميق، ربما يؤلمه حبه، ولكنه لا يبالي، أو يمثل أنه لا يكترث، فكانت حليمة الأم البديلة التي أعطاها الأمان، ثم هرب منها بقسوة وكبرياء، كأنه ينتقم من نادية الله يرحمها.
(سرحان، وطارق\”.. إنهما معا يمثلان كل الحكاية.. كل أركان أحزانها وقسوتها، وإحساسهما بالعجز والفقد الذي خلفته وراءها برحيلها.. رحيلها مرة نهائية من حياة طارق، ومرتين من حياة سرحان.
يقول سرحان: \”ماقدرتش أحزن عليها، لأني خلصت كل الحزن عليها من المرة اللي فاتت\”.. الحزن الذي يواريه خلف قسوته أظهره طارق حين رسم وجه البهلوان الحزين فوق ملامحه، وترك له الفرصة أن يرى حقيقته، وبقت درية هي حبه الذي لن يكتمل أبدا، لأنها ندا له، ولأنها أكثر قسوة ولا مبالاة من سرحان نفسه.
أعجبني وجود أفيش فيلم \”اللص والكلاب\” في خلفية هروبه من المسرح، ومن صوت طارق الذي يذكره بانتمائه لنادية، وكأنه سعيد مهران آخر، تعرض للخداع، ويبحث عن طريقة للانتقام، وعن سبيل للعيش بسلام.
يذهب لـ درية/نور، لكنه يعرف أنها نور زائف، حين يجدها مع رجل آخر، فدرية مجرد انعكاس للخلاص، كما مثلت دور نور في فراش عباس بعد رحيل تحية.
موسيقى هشام نزيه التي تصاحبنا من بداية الحلقات لنهايتها، دورها لا يقل بطولة عن باقي الشخصيات.. استطاع أن يجسد عمق الأزمة التي يمر بها طارق وسرحان، وطريقة معالجتهما لحياتهما بما يتوافق مع حاجتهما للحب أو نفورهما منه.
الإضاءة في مشاهد البهلوانات وجلوسهما في صفوف الجمهور، بينما هما أبطال حكايتهما.. مشاهد غواية حليمة وتساؤل تحية وعطف أم هاني وخيانة درية تداخلوا مع مونولوجاتهما وديالوجاتهما بنعومة بالغة وفهم كامل لاضطرابهما.
ويبقى المشهد الأخير من الحلقة الحادية عشر، حين بكى طارق على المسرح بين ذراع درية/تحية/نادية، بينما يقف سرحان في الخلفية تفترس القسوة ملامحه، ولا تدير درية وجهها إليه أبدا، بل تبتعد.
على عكس الكثيرين، لم تزعجني لهجة جمال سليمان، بل كانت مناسبة للشخصية التي يقوم بدورها، لأن سرحان من أصل شامي، لكني فكرت كثيرا في اختيار منى زكي لتأدية دور تحية في العمل الفني \”أفراح القبة\”.. تحية الفتاة التي تحمل من البراءة بنفس قدر ما تحمل من الدهاء الذي ورثته من بدرية أمها.. تربت في بيت لا يخلو من التناقضات الأخلاقية المختلفة وانقلاب المفاهيم، فمشت على الحبل كلاعبي السيرك حتى توازن بين إنسانيتها وبين الموافقة الضمنية لما يحدث حولها من دعارة وفسوق.. شخصية مركبة لا تتوافق مع شخصية منى زكي، البنت الهادئة الرقيقة القادمة من خلفية برجوازية.
لم يكن اختيارها موفقا، فتحية بالتأكيد بنت برج ناري مليئة بالحياة، وشامخة ولها نظرة تلهب ولا تحرق.. لم أستطع أن استقر على ممثلة معاصرة، لكن ظلت شادية تحوم حول رأسي كحل مثالي لهذه الشخصية المتفردة.