\”متعبّرهاش\”.. حملة يزعم القائمون عليها أنّها ضدّ التحرّش وأنّها تناصر الأنثى غير أنّها –ابتداءً من اسمها- تجسيدٌ صريحٌ لجوهر المنطق الذّكوري من حيث تدّعي أنّها تخالفه.
يفترض الخطاب الذّكوري – من ضمن ما يفترض- أنّ الأنثى موضوع لنظر الذّكر، لا ذاتًا حرّة، فاعلة، لها قيمتها من حيث هي إنسان كامل الأهليّة لاستحقاق الاحترام والحريّة بعيدا عن المعطيات البيولوجيّة، والحملة إذ اختارت لنفسها اسم \”متعبّرهاش\” وإذ تطالب الذّكور في الوصف التعريفي لها على صفحتها على موقع التّواصل الاجتماعي Facebook بألّا يتعرّضوا للإناث – من المصريّات تحديدا- \”بكلمة أو نظرة أو أدنى اهتمام\” تنطلق من ذات الخطاب الذّكوري الّذي يجعل الأنثى موضوعا لنظر الذّكر – أو عدم نظره في هذه الحالة – ليس إلّا، وكأنّ القائمين على الحملة \”يعاقبون\” الإناث بسحب فعل النّظر المادي والمعنوي (الاهتمام والاعتبار) الذّكري/الذّكوري لهنّ، وكأنه لا قيمة لهنّ إلّا بوقوعهن في مجال رؤية الذّكر، وكأن مرئيّة الأنثى تنبع من كونها حاضرة في عين الرجل، لا حاضرة في ذاتها ولذاتها، وكأن سحب النّظرة الذّكريّة للأنثى يفقدها ذكوريتها، في خطاب يعزز التّشييء والتّحقير الذّكوري للأنثى الّتي تظلّ وفقًا لهذه الرؤية أسيرة إمّا لنظرة الذّكر بشروطه هوّ أو لغياب نظرته لها ومن ثمّ قيمتها المفترض وفقا لهذه الخطاب ارتباطها الأصيل به.
لا عجب أن تسود إذنّ مفردات ومنطلقات الفكر الذّكوري (وما تحمله من عنف ضدّ المرأة) في خطاب الحملة على صفحتها وعلى لسان المتحدّثين باسمها في لقاءاتهم الإعلاميّة وإن حاولوا إبداء غير ذلك والادّعاء بخلاف ما يقولون. يتمسّك القائمون على الحملة على سبيل المثال في أكثر من موضع بفعل مراقبة والرّغبة في ضبط الملبس الأنثوي ومن ثمّ تصنيف الإناث إلى \”محترمة\” و\”مش محترمة\” -على حدّ تعبيرهم- على الرغم من ادّعائهم أنهم لا يعنيهم ما تلبسه النساء وإنما يخاطبون بذلك من يهمه الملبس من الذّكور المتحرشين، حيث يستدرك القائمون على الصفحة في تعليقاتهم أنّهم لا يقتنعون بهذا التّصنيف، لكنه موجّه لمن يتبنون التصنيف ذاته، في تناقض بيّنٍ بين أن توجّه الحملة نقدا لما لا يعتنقه أصحابها – على حدّ زعمهم- وبين أن يستخدموا ما لا يتبنون ويرفضونه شعارا لهم في الصورة الّتي تمثّل حملتهم! كذلك يردون دفاعا عن اسم الحملة أنّهم اختاروه فقط لجذب المتابعين، في اعتراف منهم بمغازلة جمهورهم بالتّماهي مع الأفكارالسّائدة وليس انطلاقا من الإيمان بجوهر حملتهم واليقين بـ\”جدارة \”ما يطالبون به في ذاته ودون الحاجة لتحقير الإناث من أجل تسويقه!
على مثل هذه التّناقضات تقوم حملة \”متعبّرهاش\”، وهي ثمثل إفرازا لرغبة في الحديث مع الّذكور بشروط ورؤى الذّكور انتصارا للذّكور، لا رغبة في فهم الخبرات الأنثويّة اليومية في اشتباكها مع المجتمع أو رغبة حقيقيّة في تبنّي وجهة النظر الأنثوية فيما يخص وجود المرأة في المجال العام وما تتعرّض له من تحرش وقمع وتضييق على حركتها وحريتها وفردانيتها. والحملة تقوم على \”التذاكي\” على متابعيها، لا على نقد ونقض ما تراه أسسا للعنف المجتمعي ضدّ المرأة، ففي حين أن القائمين على الحملة يدّعون أن دعوتهم لا تميز بين الإناث على أساس الملبس، ولا ترى الملبس الأنثوي مبررا للتّحرش، تحض الحملة النساء على الزي المحتشم والحجاب، بالإحالة إلى سلطة أعلى وهي سلطة الدين. كما يتجلّى في خطاب الحملة وفي حديث أعضائها الصّلف الذّكوري والتّحقير لمن يخالفهم الرّأي، خاصةً من الإناث، وتنطلق رؤاهم من الخطاب الذّكوري الاستعلائي الّذي يفترض معرفة أعلى من المرأة ويتضمّن بطبيعة الحال الحديث من مقام من لديه الامتياز، خاصةً في شؤونٍ تخص المرأة وحدها، أو في خبرات المرأة وحدها أدرى بها من الذّكور.
في حديثه للناشطة والباحثة في مجال دراسات المرأة والنوع الاجتماعي غدير أحمد في برنامج \”صباح الورد\” على قناة TEN اشتبك هشام سيّد مؤسس حملة \”متعبّرهاش\” مع غدير أحمد حول الحجاب متسائلًا: \”إنتي متضررة ليه أساسا؟\”، فأجابت: \”لأني ستّ\”، فكان رده: \”إنتي ستّ، مش باين\”! يتجلّى هنا الحديث من مقام من يريد أن يتبنى فكرة لا يعرف تبعاتها وعواقبها إلّا من تنطبق عليهن الفكرة، ويعايشنها وحدهن، وعليهنّ وحدهنّ تحمّل نتائجها، لذا وفي ذات الحديث بذكاء، تدعو غدير أحمد هشام سيّد لأن يرتدي هو الحجاب إن لم يكن متضررا منه، كما تشير ردود هشام سيّد هنا للفكرة القائمة عليها حملته: هو لا يرى المرأة إلا من منظوره الذّكوري، ومن لا تنطبق عليها شروط نظرته الذّكوريّة ومن لا تتفق رؤيتها لنفسها وللشؤون الأنثوية مع رؤيته ليست في \”نظره\” أنثى وتستحقّ بالتّالي إسقاط اعتبار الذّكر لها.
وعلى الرّغم ممّا أثارته الحملة من ردود أفعال احتجاجيّة كبيرة، ينبغي الالتفات أيضا إلى ما أفرزته من موافقة وتعاطي عدد من النساء -أظنّه دون إحصاء رسميّ دقيق ليس بالقليل- مع منطقها وطروحاتها. والالتفات هنا مرجعه الانتباه إلى أخطر تمظهرات الذّكوريّة، وهو استبطان النّساء لها والدّفاع عنها وإعادة إنتاجها. يتبدّى ذلك، كما يتبدّى دوما مع مواقف وأحداث مشابهة، في إعلان عدد من الإناث تأييدهن لقيم الحملة ومطالبها في تعليقاتهن على صفحتها على Facebook، بل ودفاع بعضهنّ المستميت عنها ورفضهن وإدانتهن لكلّ خطاب مناهض أو ناقد للحملة. كما يتمثّل ذلك أيضا في مواقف إعلاميات طرحن الموضوع وأبدين موافقتهن على بعض ما جاءت به الحملة فيما يخصّ ملبس النساء كمبرر للتحرش وغيره، ففي اللقاء المشار إليه سابقًا على سبيل المثال استهجنت المذيعة نرمين شريف أن تلبس الفتاة ملبسا ضيقا أو ملفتا إن كانت ممن يرتادون المواصلات العامّة، قائلةً: \”لكلّ مقام مقال، أنا نفسي لمّا بلاقي واحدة ماشية في الشّارع رايحة تركب مواصلة وألاقيها لابسة بنطلون مثلًا جينز ضيّق، أنا نفسي بقول طيّب دي رايحة تركب مواصلات طيّب هيّ ليه بتعمل كدا\”، في استبطان واضح لفرضية أن الملبس الأنثوي مبررا للتحرش، ناهيكم عن البعد الطّبقي في مثل هذا الاستهجان وعن الاشتراك في إصدار الأحكام على الأجساد الأنثوية في حركتها في الفضاء العام. من المفهوم أن الجميع – ذكورا وإناثًا- يستدخل القيم الأبوية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، لكن تظل أقسى تجليات الذّكورية تلك الّتي تستبطنها النساء وتعيد إنتاجها، ويظلّ أقسى أنواع الظّلم ذلك الّذي يتمكن فيه الظّالم من جعل الضحية امتدادا له، ومدافعا عنه.
\”قوة النظام الذّكوري\” كما يقول بيير بورديو \”تكمن في حقيقة أنّه غنيّ عن التبرير\”، فالذّكوريّة –كما لا يخفى على الكثيرين- سردية قديمة جدا ومتأصلة في بُنى مجتماعاتنا الثّقاقيّة والاجتماعيّة وسابقة لكل محاولات تفكيكها والانتفاض عليها ونقضها، وخطورتها تكمن في سيولتها ولا مرئيّتها أحيانا كثيرة، وفي إعادة إنتاجها لنفسها وإعادة إنتاجنا لها، لذا يقتضي التحرر منها عمل طويل وتفكيك دائم وتفاوض مستمر على عملية إنتاج المعنى والسرد، وتقتضي أولًا بالضّرورة أن نتحرر جميعا منها ومما ترسّب منها في وعينا ولا وعينا. والطّريق ما زالت طويلة.