في المجتمع الثقافي المصري، والذي أسعدني القدر أن انضم إليه منذ عشرة سنوات تقريبا، حيث عملت في اكثر من مركز ثقافي وأكثر من دار نشر، وتعاملت مع الكثير من الشباب الهاوي للقراءة والكتابة ويواظبون على حضور جميع الفعاليات الثقافية، لاحظت أن الأغلبية العظمى منهم والذين تتراوح اعمارهم من بداية العشرينيات وحتى نهايتها، هم من أكثر الناس عنصرية ممن قابلتهم في حياتي، وهو أمر لازال يثير دهشتي حتى الآن!
فهؤلاء الشباب على الرغم من رغبتهم الجامحة في اكتشاف العالم والقراءة بنهم والكتابة للتعبير عن أنفسهم والدفاع عن حقوقهم وحريتهم، إلا إنهم خلقوا لنفسهم مجتمعا صغيرا منغلقا خلف ستار من العمق.. ينعزلون فيه عاليا بعيدا عن الآخرين.. لهم موسيقاهم الخاصة.. كتابهم المفضلين، شعراؤهم المختارين، ومجموعة مختارة أخرى من المخرجين الأوربيين والفرق الغنائية الأجنبية، ونوعية بعينها من الحفلات المصرية والتي لا يرضون بسواها بديلا لتحقيق تلك الصورة العامة الموحية بالعمق للناظرين من بعيد.
ليس هذا سبب دهشتي، ولكن السبب هو نظرتهم لكل من يخرج عن تلك المنظومة ويشعر أن نفسه تميل إلي أي نوع آخر من الفنون التي اختارها هذا المجتمع الصغير المعزول، فيعتبروته شخص سطحي، ويسخرون منه ومن ذوقه العام في اختيار كل ما يعبر عنه.
بالسخرية بدأ الأمر، ولكنه تطور مع الوقت بالهجوم عليهم سواء من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال الجلسات الصغيرة على مقاهي وسط البلد حين ينضم عن طريق الصدفة أحد الخارجين عن تلك المنظومة التابعة للسيستم \”العميق\”، فيبدأوا الهجوم على هذا الشخص الدخيل من خلال اتهامه بالسطحية والفشل في اختيار نوعيات جيدة من الفن تزيد من \”عمقه\” كمثقف.
هذا نوع نادر ومتخفي من العنصرية، حيث يعيش وراء ستار \”انت مش عارف مصلحتك\”، كما يفعل المجتمع مع المثليين والبدناء، حين يبدأ في معاملتهم كأنهم من جنس آخر.
الأزمة في هذا النوع من العنصرية أنه يأتي من أكثر الناس التي يجب أن تحارب العنصرية، بل وتحارب نوعيات بعينها من العنصرية بالفعل دون أن يدركوا أنهم يمارسون نوع آخر مسموم من العنصرية.
حين لا يتقبل المثقف العميق الذي يعشق أغاني \”بينك فلويد\”، الشخص الذي يجد حكمة ما ترضى عقله في أغاني المهرجانات أو أي أغان أخرى غير التي يفضلها هو، ولا يعترف أن كل نوع من الفن أيا كان بعيدا كل البعد عن ذوقه الخاص، فهو يخاطب فئة بعينها من البشر ويقدم لها شيئا هي تحتاجه، فهذا المثقف العميق قد أثبت على نفسه صفة السطحية التي يتهم بها الآخرين الخارجين عن منظومته المغلقة.