أمنية طلعت تكتب: في حضرة التاريخ.. الهوس التكنولوجي ينتصر

ربما ليس من المفترض أن نهتم جميعا بقراءة التاريخ أو تتبع آثاره فيما بقى منه على الأرض، وليست زيارة المتاحف الأثرية أو الفنية بمتعة للجميع، فمن المتعارف عليه أن مثل هذه الأشياء تشكل اهتماما خاصا للبعض دون الكل من فئات المجتمع، وهنا لا أخص بحديثي المجتمع المصري، لكن كافة المجتمعات التي تتنوع بانتمائتها الثقافية المختلفة.

ليس في هذا الأمر انتقاص من قدرات البعض العقلية أو الثقافية، فالموضوع بالفعل يعود للأهواء والمفضلات الذاتية التي يجب أن تتنوع بين الناس كي لا تبور السلع كما يذكر المثل الشهير (لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع).

إذا دعونا نتفق أنك عندما تقرر الذهاب لزيارة متحف أو معبد أثري فذلك لأنك مهتم بهذا المجال، خاصة لو كان الأمر يتضمن تذكرة يتم دفعها بمبلغ ليس بالقليل مقارنة بمستوى المصريين المعيشي، وعندما تذهب إلى هذه الزيارة فأنت بالتأكيد ستهتم أن تشاهد وتطلع على المعلومات والأفكار والتصميم والبعد الجمالي الخاص بهذا الشئ، وبعدها بإمكانك أن تحصل على صورة تذكارية وربما عشرة.

مؤخرا سافرت في رحلة نيلية من أسوان إلى الأقصر لزيارة المعالم التاريخية الفرعونية التي تشتهر بها المدينتان، ولاستمتع بالطبع بطبيعة النيل الساحرة في جنوب مصر والشمس التي لا تغيب أبدا وتُشع دفئا في عز طوبة، لن أتحدث كثيرا عن تجاوزات الزائرين من مواطنينا الأعزاء داخل المعابد الفرعونية، فهذا ليس موضوعي، لكني هنا أرغب في الحديث عن عرض الصوت والضوء الذي قررت حضوره في معبد الكرنك، والذي ندفع ستين جنيها ثمنا للتذكرة الواحدة لحضوره، أي أن عائلة مكونة من أربعة أفراد ستدفع 240 جنيها، وهذا مبلغ ليس بالزهيد بالنسبة للعائلات المصرية التي حين تقرر حضور مثل هذا العرض، فهي بالفعل مهتمة جدا بما سيتم سرده من أحداث وتواريخ.

ما حدث لم يكن كما توقعت، فبرغم أن عرض الصوت والضوء يبدأ في التاسعة مساءً، حيث الكلمة الأولى والأخيرة للظلام، ولا ضوء هناك سوى الأضواء المستخدمة ضمن العرض، إلا أن الحشد الهائل من زوار العرض العربي، أخرج هاتفه الذكي وبدأ في تصوير كل شئ مستخدما الفلاش  ليخترق عيوننا وتاركا صوت \”تكات\” اللقطات مدويا في فضاء الصمت، كانت الكتلة البشرية التي بدأت في الاستماع إلى عرض الصوت والضوء بداية من طريق الكباش، تتحرك في عشوائية أشبه بالهيستريا، حيث كاميرات الهواتف تسجل فيديو ولقطات فوتوغرافية لكل شئ، رغم أنهم لو فكروا قليلا لاكتشفوا أن الظلام الدامس سيؤثر على تصويرهم، ولن تكون النتيجة مقبولة حتى، وأنه من الأفضل أن يغلقوا كل شئ ويستمتعوا بالعرض، إضافة إلى أن عروض الصوت والضوء الخاصة بكل المزارات الأثرية المصرية متوفرة على موقع \”يوتيوب\”، وكذلك يمكن شراء تسجيلات احترافية لها يتم بيعها في مكتبات كافة المتاحف والمزارات الأثرية المصرية.

لم يكن من السهل على من هم مثلي، هؤلاء الذين مازالوا يتيحون للعين فرصتها لالتقاط الصور وللأذن فرصتها لتسجيل المعلومات، أن تتواءم مع مثل هذه الهيستريا التي أصابت الجميع بلا استثناء، فتركت الحشد المتكالب على ذاته وهو يسير ليكمل عرض الصوت والضوء دون أن يسمع أو يرى شيئا، وابتعدت علّي استطعت أن أستمتع بأي شئ من هذا العرض الذي ذهب أدراج الرياح.

من بعيد لم أر سوى دمىً تتحرك دون روح، تدور حول نفسها ولا تستطيع أعينهم أن ترى شيئا بمعزل عن عدسة الكاميرات، فكلهم بلا استثناء يسيرون كأشباح لا تشعر بما حولها، فيتخبطون في بعضهم البعض ويتعثرون في أقدام بعضهم البعض، تلك التي لا تشعر بموطئها، بينما أعينهم الزجاجية تلتصق بالعدسات وآذانهم لا تسمع حتى (تكات) اللقطات.. كانوا أشبه بطقس للروبوتات التي خرجت في مهمة رسمية لتمشيط معبد الكرنك.

لقد أصبح الإعلان للآخرين أنك كنت في مكان مميز ما، أهم بكثير من استمتاعك بوجودك في هذا المكان، فالتكنولوجيا الحديثة وخاصة الهواتف الذكية بكل ما تحتوي عليه من أجهزة متعددة مثل كاميرا فيديو ومُسجل صوتي وكاميرا فوتوغرافية، وكذلك فيس بوك، تُسجل عبره الأماكن التي زرتها وتُحمل صورك في المكان في التو واللحظة، جعل الناس يهتمون أكثر بأن (يخبروا)، لا أن يختبروا، بأن يُعلنوا للآخرين، لا أن يعلموا ويتأكدوا من علمهم، بأن يسجلوا حالتهم بأنهم (يستمتعون بحضور الصوت والضوء في الكرنك)، دون أن يستمتعوا فعلا بالحضور.

لا يمكنني أن أنفي التكنولوجيا الحديثة تماما من حياتنا، فهي أصبحت كالماء والخبز، ولكن في نفس الوقت – وفقا لما أعتقده – لا يمكننا أن نتركها لتكون كل شئ في الحياة، فنعيش بالكامل من خلالها ويتحول العالم الواقعي حولنا إلى مجرد صور لا روح فيها، نراها لكن لا نكونها أبدا.

إن تسجيل اللحظات التي نعيشها بالصوت والصورة والكلمات من خلال الهواتف الذكية وعبر المواقع الاجتماعية، يحتاج منا إلى قليل من التعقل، فنحن بإمكاننا أن نكون ناشطين تماما على الفيس بوك وتويتر، وأن نسجل حضورنا في الأماكن المميزة، وأن نكتب حالة مشاعرنا باستمرار، ولكن؛ علينا أن نعيش أولا ثم نسجل، وأن نُفرق بين ما يمكن تسجيله وما يجب الاستمتاع به فعلا دون تسجيل.

أنا أعشق التصوير منذ طفولتي، ودائما وأبدا ما أحمل الكاميرا وأسير بها في كل مكان، لكنني لا أخرجها من جرابها لالتقط صورة، قبل أن تتشبع عيني باللقطة الذي أرغب في تخليدها، ومع ذلك، ورغم أنني مصورة جيدة، إلا أن عدسة الكاميرا لم تتمكن حتى مع أكثر الكاميرات احترافية وتطورا أن تلتقط هذا الكادر الجمالي الذي التقطته عيني أولا، ليبقى مخلدا في ذاكرتي بطبيعته الربانية المُذهلة، والتي لن تستطيع أعتى الكاميرات أن تُجسده.

تحضرني الآن أفلام هوليوود التي تتنبأ بأن الإنسان سيعتمد في المستقبل على الإنسان الآلي بالكامل، وأن الروبوتات سوف تتطور ويصبح لديها إحساس فتبدأ في منافسة الإنسان على الحياة، ثم تقضي عليه وتحتل الأرض.

اعتقد أن هذا التنبؤ بقليل من التأمل سيعني أن الإنسان نفسه سيتحول إلى إنسان آلي ذو عين زجاجية تلتقط الصور والفيديوهات، وأذن تُسجل ما تسمع، وذلك في تطور أكيد (لو استمر الإنسان في هيستريا عبوديته للآلة)، حيث سيتماهى تماما مع تلك الآلة، بحيث يندمجان ولا يكونا وحدات منفصلة، وهو ما بدأ بالفعل من خلال وحدات تكنولوجية متعددة منها على سبيل المثال؛ نظارات المحاكاة التي ما إن يضعها الإنسان على عينه، حتى ينفصل تماما عن واقعه المحيط ويدخل في عالم افتراضي ينفعل معه ويتأثر ويُصدر ردود أفعال بشرية حقيقية، وربما حتى لا يرهق حشد (الصوت والضوء في الكرنك) نفسه بدفع أموال نظير تذكرة القطار أو الطيران وتجشم عناء الانتقال من موضعه في منزله العتيق، سيخترعون زيارة كاملة لكل معالم مصر التاريخية في يوم واحد، لا ينتقلون فيه من على أريكتهم الأثيرة، بينما يستمتعون بكل شئ من وراء نظارة المحاكاة، ويتركون لأمثالي الفرصة كي يستمتعون بالعرض فعلا في أكبر معبد في العالم.. الكرنك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top