أمنية طلعت تكتب: سيجارتي العزيزة

لست من الذين انجروا بفعل أصدقاء السوء لارتكاب فعل التدخين الشنيع.. لم يعرض علي أي إنسان سيجارة وعدد لي في جمالياتها كي أبدأ مشواري الطويل معها، لكنه كان اختياري المنفرد وقراري الذي لم أناقشه مع أحد أو أطرحه على إنسان.. علاقتي بالسيجارة علاقة خاصة جدا، تجمعني بها دون شريك ثالث.

أذكر عندما قررت شراء أول علبة سجائر وتدخين أول سيجارة في حياتي.. كنت في السنة الأخيرة من دراستي بكلية الإعلام جامعة القاهرة، حيث أقطن في المدينة الجامعية للطالبات بميدان الجيزة.. لم يكن الأمر سهلا، بل احتاج مني لكثير من التفكير كي أضع خطة محكمة حتى أتمكن من شراء هذه العلبة ومن ثم التدخين.

كنت عائدة من محاضرة متأخرة، وقررت أن أعود سائرة على قدمي إلى المدينة الجامعية، فكرت وأنا هائمة على وجهي – لا أذكر تماما الآن سبب هذا الهيام، لكنني شخص تائه على كل حال – إنني أرغب في التدخين.. ظللت أفكر كيف سأتمكن من الوقوف أمام أحد الأكشاك وأطلب منه علبة سجائر؟ الأمر بالفعل كان صعبا، فأنا فتاة وعيب يكاد يصل إلى التحريم أن تدخن فتاة.. غرقت في تساؤلات عدة:

كيف سينظر لي صاحب الكشك؟

هل أخبره أن هذه العلبة لي؟

ما هي الجملة المناسبة لطلب شراء علبة سجائر؟

هل سأدخن كليوباترا سوبر مثل جدي رحمه الله؟

في رحلتي مع التساؤلات عبرت على أكثر من كشك للسجائر، حتى وصلت إلى آخر واحد قبل الوصول إلى المدينة الجامعية، كان عليّ بالفعل أن أتخذ قرارا سريعا وأحسم أمري، فإما سجائر أو لا سجائر.. قررت أن أترك قدماي تسوقني نحو قدري المحتوم.. كنت بالفعل أشتهي سيجارة، رغم أنني حينها لم تكن لي أي علاقة بالسجائر سوى استنشاق دخانها بجوار المدخنين، لكنني بالفعل كنت أشتهيها حد الجنون.

قدماي توقفتا.. لا تسمرتا أمام كشك السجائر الأخير، وقفت أمام صاحبه القابع في الداخل صامتة تماما، ربما كان وجهي يحمل حمرة الخجل، لكنني متأكدة من أن الإحساس بأنني أرتكب عارا ما؛ كان يسرح داخلي ويصول ويجول في كافة أركان روحي.. رغبتي في الحصول على سيجارة تغلبت على أي إحساس بالعار في النهاية، ووجدت نفسي بتلقائية شديدة أجيب على صاحب الكشك الذي سألني بصوت فارغ من الصبر: عايزة إيه يا أبلة؟

عايزة علبة سجاير

ببساطة لم أكن أتوقعها سألني: أي نوع؟

هنا وقعت في حيص بيص كما يقولون، فإن كنت أرغب في التدخين، فأي نوع من السجائر علي أن أدخن؟ وجدتني أشاور على علبة بيضاء مرسوم عليها خطين باللونين البرتقالي والبني وأجبته: هذه

كان أول نوع قمت بتدخينه سجائر اسمها (لايتس).. أخذت العلبة ودفستها داخل حقيبتي، وكأنني أخبئ قطعة حشيش، ومضيت مكملة طريقي نحو بوابة المدينة الجامعية. لم يكن من ضمن إجراءات دخول المدينة تفتيش الطالبات، فقد كنا ندخل ونخرج بأريحية تامة، لكن إحساسي بأنني ارتكبت جرما خطيرا، جعلني أتشبث بحقيبتي، وكأنني سأدخل في سجال طويل، لرفضي التفتيش على البوابة.

دخلت وسط حراس المدينة الجامعية، وأنا متحفزة لمواجهة كافة أنواع التفتيش، ولأول مرة لم ألق بالسلام على الحراس الذين كانوا في حقيقة الأمر أصدقاء حقيقيين لي، اعتدت أن أشاكسهم بمرح في الدخلة والخارجة. وبعد أن عبرت البوابة بخطوتين ناداني أحدهم بمرح: إيه يا أبلة أمنية مفيش سلام عليكم ولا إيه؟ أجبته بتجهم: سلام عليكم، ثم أسرعت الخطى إلى الداخل حتى لا أستقبل أي جمل لتكملة الحوار بيننا أكثر من ذلك.

الإحساس بأنني مقدمة على مصيبة كان هائلا فعلا.

الخطوة التالية كانت إخراج سيجارة من العلبة وإشعالها ومن ثم تدخينها.. فهل كان الأمر هينا؟

بالطبع لا.. فمن الممنوعات، بل المحظورات التامة الباتة، تدخين أي فتاة، ومن يتم كشفها تتعرض للرفد من الإقامة في المدينة الجامعية. أي أنني ببساطة لو تم كشفي سيتم رفدي، ومن ثم تبليغ أهلي بسبب الرفد، ألا وهو التدخين.. مصيبة كبرى أن تعرف أمي أنني أدخن السجائر.. الأمر أشد قسوة من كشفي ورفدي.. الأمر أشبه بإبلاغ أمي بأنني حملت جنينا من رجل مجهول.. نعم الأمر يصل إلى هذه الدرجة، وربما كان هذا هو تخيلي للأمر.

فهل منعني ذلك عن التدخين؟ لا لم يمنعني ببساطة، فأنا لا أرغب في إقامة علاقة مع رجل، ولكنني أرغب في تدخين سيجارة

بعد أن وصلت إلى غرفتي بالمدينة الجامعية، حالفني الحظ بغياب صديقتاي المقيمتين معي، لم أهتم كثيرا بتحديد موقعهما، كل ما همني أن أسحب علبة سجائري الغالية، وأعثر على مكان آمن للتدخين.. صعدت إلى سطح البناية رقم 1 التي كنت أقطنها، وعندما لم أعثر على أي فتاة به، ودون أن أفكر في مخاطر الأمر فعلا، خطوت باتجاه خزان المياه في آخر الجانب الأيمن من السطح، ومن ثم صعدت على السور ومشيت كلاعبة أكروبات محترفة لأسير بمحازاة خزان المياه، إلى أن أصبحت ورائه ولا أعرف حتى الآن كيف جلست على السور وقدماي مدلاة في الفراغ، يفصلني عن الأرض خمسة أدوار، بينما تواجهني مزارع كلية الزراعة.

أخرجت السيجارة وأشعلتها ثم سحبت أول نفس في حياتي، وكان السحر.. كل شيء أكرهه في الحياة يتبدد مع كل نفس ويتصاعد في غنج محاولا أن يرضيني مع دخان السيجارة اللعوب.. كل أحلامي التي أحب أن أسبح معها في خيالي حلت محل كل إحباطات الواقع وغضبي من الجميع.. أهلي وحبيب الجامعة الأحمق وديكتاتورية الأساتذة وعبء الفقر وأبي الذي أجهل موقعه من الحياة، وغضبي لأنهم أنجبوني دون إرادة حقيقية مني ووطني المخزي والمحبط وهتافات المظاهرات التي لا تأتي بأي مردود إيجابي والحياة كلها التي لا أعثر فيها على حقيقة أمسكها بيدي.

كانت هذه سيجارتي الأولى ولم تكن الأخيرة.. أذكر تماما أنني عندما قررت أن أعيش حياة صحية وأتوقف عن التدخين، عشت عاما ونصف أحلم كل يوم بتدخين سيجارة، وأنظر نحو نوع سجائري بالسوبر ماركت بحرمان العاشقة من عشيقها، حتى قبضت بسيجارتي العزيزة بين إصبعي عقب مرور أسبوع من النوم المتواصل بعد انتهاء أحداث محمد محمود عام 2011.. لم يكن هناك أي سلوى للإحساس بالضياع بعد هذا الحدث الدامي غير المبرر سوى دخان سيجارتي.. زفرت معها كل عبء يجثم على صدري واستطعت أن أستيقظ من النوم لأكمل الطريق في تلك الحياة العبثية، التي لم أعثر على سبب منطقي حقيقي لوجودها أصلا.

سيجارتي العزيزة:

أعلم أنهم جميعاً يحذرونني منك بدعوى أنك ستعجلين بموتي بعد تدمير صحتي، لكنني في الحقيقة لا أدري كيف يلقون عليك بكل تلك الاتهامات الخطيرة وحدك، فنحن في وطننا العزيز نستشق ثاني أكسيد الكربون ونشرب الرصاص والفوسفات ونأكل طعاما ملوثا تماما ونقود سيارتنا على طرق خطرة، حيث تُعد مصر من أعلى البلاد التي يموت أبنائها على الأسفلت، ونعيش في ضغط عصبي يومي يجلب الضغط والقلب والسكر.. كل هذا ويلقون عليك بكل اللوم في تدمير الصحة.

سيجارتي العزيزة: أنت السلوى وسط هذا العالم المجنون المليء بالإحباط.. أحبك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top