لا تجسد رضوى عاشور بالنسبة لي مجرد أديبة فائقة البراعة، تجذبني لسطورها المختلفة في تجسيد المواقف ونسج الحكايات، بل هي أيقونة معلقة في منتصف جبهتي أراها في كل رمشة عين ولحظ نظر، فهي التي عاشت عمرها كله تعبر من تل إلى مرتفع إلى جبل حتى اعتادت العبرات وعاشت تشد الصبر على خصرها وتنتصب شامخة، تبدو لي دائماً عصية على الهزيمة حتى بعد أن هزمها الموت.
رضوى ليست مجرد تلك الأديبة المبدعة في \”ثلاثية غرناطة\”، التي وقفت منتبهة لطريقتها في الحديث والشرح وهي ترد على أسئلة الصحفيين في جمعية محبي الفنون الجميلة عام 1995، وأنا مجرد فتاة تحاول الخروج من الشرنقة لتشق طريقها في غابة الصحافة والأدب، فهي تلك المرأة التي ذهبت لشراء ثلاثيتها \”غرناطة ومريمة والرحيل\” من دار الهلال، فوقفت مشدوهة عاجزة عن النطق، وأنا أنهب بعيني السطور الأولى اأتساءل: هل يمكن لي أن أكون كذلك يوماً؟ امرأة يُشع من بين سطور إبداعها البطولة، فلا تشعر للحظة أنها تختلق سطوراً من واقع خيالي تربطه فقط بتاريخ الأندلس، هي تلك المرأة الحزينة الجميلة التي لا تتوانى عن الصمود برموش صلبة مسدلة على كشافي عمق الحقيقة.
رضوى عاشور التي اتوارى خجلاً بهزائمي أمام هزائمها، وأنشد أن تمنحني قوةً من تلك التي تفيض بلا نضوب لديها، ومن بعيد وأنا أخجل أن اقترب، أمتص رحيق الصمود من بين ثناياها.. ظللت أعواماً طويلة أخجل وأخاف من أن أقترب منها حتى لا أُفجع بأي حقيقة غير تلك التي استشفها على الورق. أخاف أن تكون مثل مبدعين كُثر، جذبني إبداعهم، لكنني عندما اقتربت منهم، هزموني بواقعهم المزيف وادعائهم على الورق.. قررت أن احتفظ بها كما هي في البرواز الأنيق المعلق بمخيلتي (حقيقية كسيف قاطع وجميلة كزهرة برية عصية على الاستئناس داخل فازة مستريحة على طاولة في الظل).
مرت الأعوام وأنا أرقبها من بعيد وأتماهى مع حروفها التي لا تنضب مهما تعددت مرات القراءة لها، حتى التقيتها صدفة في مظاهرات \”ست البنات\” التي تم تعريتها وسُحِلَت على أيدي رجال الجيش، والتي انتفضت النساء لرفض ما حدث لها في وقت كان التعبير عن الرأي متاح وغير مُجرم مثلما يحدث الآن في عصر الرئيس عبدالفتاح السيسي.
كانت تمر بموجة من موجات مرضها الطويل، والذي صادقها لأكثر من ثلاثين عاماً، ولكنها رغم ذلك نزلت لترفض تدنيس المرأة بجسدها إذا ما شاركت في أحداث سياسية معارضة للنظام العام الحاكم.. إلى هذا الحد كانت رضوى واضحة وقاطعة وصريحة، وإلى هذا الحد لم تكن مجرد بوق لأفكار بلا فعل، ومشاركة حقيقية فاعلة على الأرض مع باقي أفراد الشعب والبسطاء.
كنت أسير بظهري للأمام وأوجه ناظري للحشود النسائية الهادرة، وأنا أرفع كاميرا الموبايل لألتقط الصور والفيديوهات لهذه المظاهرة التي مازلت أتشرف بالمشاركة فيها مع أختى وأمي. وقع بصري على أمي الرُوحية وهي تسير وتهتف معنا (ستات مصر خط أحمر)، لم أستطع أنا أتمالك نفسي تلك المرة وركضت نحوها لأعانقها دون استئذان والدموع تنهمر من عيني وأنا أقول لها: أنا بحبك أوي.
لن أنسى نظرتها.. الدَهِشة.. الفرحة، والمحبة في نفس الوقت، ولن أنسى عندما سألتني: أنت مين؟ فأجبتها: أنا اسمي أمنية، بس مش مهم أنا مين وبعمل إيه.. المهم إن أنت موجودة في الحياة، وإنك تعرفي إني بحبك وإنك أمي الرُوحية.
تركتها وعُدت مكاني وأنا أرسل لها قبلات في الهواء وهي تضحك.
رضوى عاشور.. الروح الحرة التي أكاد أُجزم أنها معلقة الآن كمشكاة منيرة في السماء، لم تكن مبادئها مُجزأة ومواقفها محسوبة خوفاً أو طمعاً، لم تكن سوى سهما منتصبا في وجه الزيف، ولم تكن من هؤلاء النسويات الزاعقات بحرية مزيفة للمرأة، بقدر ما كانت نموذجاً حياً لنسوية تسير نبراساً يُحتذى بين النساء.
أتخيل الآن لو كانت رضوى على قيد الحياة وعاصرت واقعة تعرية المرأة المسيحية المسنة في قرية \”الكرم\” بالمنيا، هل كانت ستخاف عواقب قانون التظاهر الفاسد؟ هل كانت ستحسب حسابات الربح والخسارة مع السلطة الحاكمة الآن؟ أم كانت سترفع راية (ستات مصر خط أحمر) وتسير بها في الشوارع.
رضوى الصامدة لم تكن لتحسب حساب شئ، وكانت ستعلن رأيها بكل وضوح قاطع، وأنا معك يا رضوى حتى وإن هاجمت الديكتاتورية القلوب وهزمتها، فلم يستطع أحد أن يدعو حتى لمسيرة تندد بتعرية امرأة -لأي سبب كان- في الصعيد، فأنا من هنا ومن كل منبر متاح حتى ولو كان افتراضيا، أعلنها صريحة (أنا كرضوى أرفض ما حدث ويحدث في مصر كل يوم من هزائم تتراكم على القلب، حتى أصبح أثقل من رضوى.. أرفض جنون وعبث السلطات الحاكمة في كل المجالات، وليس فقط في التعامل مع واقعة المرأة المسنة التي فضحوا ستر عجزها، وهوانها على الناس)
كل من يملك عقلاً لا يتلوى حول الحقائق البازغة اليوم، أثقل من رضوى.. كل قلب يشد حزام الحق حوله اليوم، أثقل من رضوى.
ونحن في حاجة إلى كل رضوى على الأرض الآن لنتعلم كيف نشد على الخصور الصبر وننتصب.