ربما تكون القضية أزلية النقاش الآن هي \”الفردانية\”، والتي تنبأ بها الفلاسفة منذ منتصف القرن العشرين تقريبا مع تطور الآلة وبداية الاستغناء عن الأيدي العاملة وإعلاء قيمة الاستهلاك على قيمة الحصول على مُنتج مميز يظهر من خلاله إبداع العامل نفسه وينتج عنه ارتباط المستهلك بالمُنتج الذي اختاره بعناية ليعبر عنه بصدق، وهو ما ناقشه الشيوعيون أو ما درجنا على تسميتهم باليسار باغتراب العامل، فقبل أن تظهر الآلة التي تنتج نفس الوحدة الاستهلاكية بنفس الشكل مئات المرات، كان هناك العامل الذي يُنتج عشرة وحدات تؤدي نفس الغرض ولكن تختلف كل وحدة عن نظيرتها لأن في كل مرة إنتاج يُضيف العامل شيئا جديدا من روحه، ما يخلق ارتباطا بين العامل ومُنتجه وكذلك الشاري نفسه، لكن الآلة خلقت الاغتراب بين العامل وما يخرج من الآلة، وبين العامل والشاري الذي لا يراه ولا يعلم عنه شيئا، إضافة إلى التشابه الذي لا يجعل المُنتج مميزا عن نظيره، وبالتالي تنتفي صفة التميز عند الاقتناء.
ربما بدأ أمر الاغتراب مع هذه النقطة، لكنه لم يتوقف عنده، فلقد تشابهنا جميعا في الاقتناء، وانقطعت الصلة بيننا وبين الصانع أو العامل، وهذا ما استطاعت أن تقوم به الثورة الصناعية والتي ارتكنت إليها أو قامت عليها الرأسمالية التي تحكم العالم الآن. تلك الرأسمالية التي لم تقتصر على مبدأ الإنتاج فقط، بل انسحبت إلى أرواحنا.
الآلة ساهمت في تقليل ساعات العمل وتدريجيا استغنت عن العمالة، فهي لا تحتاج إلى أيادٍ عاملة كثيرة، لكنها في نفس الوقت خلقت احتياجا كبيرا لدى المجموع للاستهلاك، نظرا لتنوع وتعدد المنتجات التي عملت على زرع احتياج لدى الناس لاقتنائها وجعلتهم يعتقدون أنهم لا يستطيعون العيش دونها (إنتاج ضخم يحتاج إلى سوق كبير)، ونظرا لأن الآلة لا تحتاج إلى الإنسان بشكل كبير، ففرص العمل والكسب أصبحت قليلة، وبالتالي خُلِقت أزمة عدم مساواة الأجور بقيمة العَمَل المُنْتَج، وهنا بزغت المشكلة، فالفرد الواحد يحتاج إلى أن يعمل في أكثر من مكان ليوفر المادة التي يحتاجها من أجل توفير احتياجاته المتعددة التي أقنعته الرأسمالية أنه لا يستطيع العيش بدونها، وهنا بدأ الإنسان ينعزل عن نظيره ليتقوقع حول ذاته وتختفي تدريجيا التقاليد الاجتماعية التي كانت تجمع البشر حولها في ضمير جمعي واحد.
لن أتحدث عن الإنترنت وبرامج الشات المتعددة وما فعلته لزيادة الاغتراب بين البشر ليقتصر التواصل الاجتماعي على جمل قصيرة تنتقل عبر الألياف الضوئية، ولكني ببساطة أحاول هنا الوصول إلى السؤال: هل أنت سعيد وحدك؟ هل تعنيك سعادتي؟
منذ أيام ساقتني الأقدار إلى أن أجالس شابا في الثلاثين من عمره، لم يتزوج ولن يتزوج، فهو ببساطة لخص حياته في جملتين ( أنا أعمل في وظيفة محترمة تأكل كل وقتي، لكنني أكسب نقودا كثيرة أرغب في الاستمتاع بها )، (لا يوجد شئ اسمه حب وعواطف، والعلاقة مع المرأة هي ببساطة حاجتي البيولوجية للجنس). هذا الشاب يؤكد أنه سعيد جدا وليست لديه أي أزمة وأنه رجل عِلمي في تفكيره ولا يؤمن بكل أقوال الحكماء والفلاسفة والأدباء عن الحب والعلاقات البشرية وغيرها، فهو ليس لديه وقت لكي يسمع هموم غيره ومشاعرهم ولا يريد أن يساعد أحدا في أزمته، وفي نفس الوقت هو لا يطلب من أحد أن يسمع شيئا عن أزماته الشخصية، لأنه يعرف جيدا كيف يتعامل معها.
منذ شهور لا أعرف عددها تحديداً، استمعت لمقطع من برنامج الإعلامي عمرو أديب تحت عنوان (محدش يستاهل)، يقول فيه بمنتهى الوضوح: ما هي المشكلة في أن يستيقظ صباحا ليذهب إلى العمل ويؤدي ما عليه كما ينبغي ثم يعود إلى المنزل ليتعشى ثم ينام وهو كده تمام وزي الفل، لا حب ولا عواطف ولا يحزنون لأن محدش يستاهل).
على جانب آخر في عالمنا الذي نعيشه تذيع شهرة أغنية شعبية بعنوان (مفيش صاحب يتصاحب) وعلى عربات النقل والتوكتوك تقرأ جملة (أنا كدة تمام لوحدي)، وعلى الفيس بوك ينتشر بوست ملخصه (احذف كل الناس اللي بتشتكي وماتضيعش وقت معاهم وركز مع الناس اللي بتضحك ومبسوطة على طول).
كل ما سبق نتيجة حتمية لفردانية الرأسمالية التي حاولتُ تلخيص ما تُحدثه من اغتراب حقيقي في النفس البشرية، فتُحول كل المشاعر الفطرية لدى الإنسان والخاصة بوجوب الارتباط؛ من ارتباط واحتياج لوجود إنسان مثلي في حياتي إلى ارتباط بالأشياء، فيصبح هاتفي المحمول أهم من حبيبي أو ابني أو أمي أو أبي أو صديقي، وبعد اللهاث اليومي من أجل الحصول على نقود تكفي لاقتناء كل الأشياء التي أقنعتني الرأسمالية بأنني لا أستطيع العيش دونها، يصبح الهدف هو الابتعاد عن أي علاقات قد تجلب وجع دماغ، وهو الطبيعي جدا في العلاقات البشرية، فالتفاعل بين البشر يستلزم التعاطف مع أزمات الآخرين وربما المساهمة في حلها.
لا يمكنني أن أقول إننا في أزمة حقيقية وإننا يجب أن نتوقف عن اللهاث وراء اقتناء الأجهزة الحديثة والعمل الهيستيري لتحقيق دخل عال، والابتعاد عن العلاقات البشرية طالما تحتوي في جزء منها على الألم والمشاكل.. لا يمكنني أن أطالب الناس بتغيير نمط الحياة الذي جُبلوا عليها منذ نعومة أظافرهم ولم يجدوا غيرها في الحياة، فنحن نعيش بالفعل في ذروة الاغتراب الرأسمالي، لكنني أتساءل: إلى متى سيظل الإنسان دائرا في هذه الطاحونة المُهلكة، وهل يمتلك أصلا أن يضغط بإصبعه على زر الآلة لتتوقف ويعود الصمت ليبدأ التفكير من جديد في قيمة الحياة التي يعيشها دون نظير له يتفاعل معه ويأخذ منه ويعطيه؟
أعتقد أنها أسئلة مشروعة، خاصة لهؤلاء النادرين الذين مازالوا يؤمنون بحقيقة الضمير الجمعي وأهميته، لهؤلاء الذين مازلوا يؤمنون بأن هناك روحا تحتاج إلى غذاء لا علاقة له بجهاز الكمبيوتر والهاتف المحمول والسيارة الفارهة والبيت المعبأ بالأثاث الفاخر الذي لم يعد يشاركنا أحد في استخدامه أو حتى رؤيته، لهؤلاء الذين مازالوا يستطيعون الاستمتاع بظل شجرة ويلهثون وراء الطير ليهز قلوبهم زقزقة عصفور أو هديل حمام، لهؤلاء الذين مازال موج البحر يعصف بدواخلهم، ويرتعشون عند الفقد، ويحزنون ويشكون ويتألمون لأنهم عند الفرح يستطيعون بلوغ ذروة البهجة دون تسجيلها بصورة سيلفي، لهؤلاء الذين يعلمون جيدا قيمة الحب، هذا الحب الذي يحمل في طياته كلا من السعادة والحزن، لأنه عندما يحزن سيحزن بحق وعندما يسعد سيسعد بحق. وهذا هو الإنسان ببساطة.