باعتباري أول مصرية تزور هذه المنطقة، فكان دخولي يشبه دخول الفاتحين.. الطريقة التي استقبلوني بها، أسئلتهم، نظراتهم، دهشتهم، وهم ينظرون إلي وأنا اتحدث، اقترابهم الحميم مني، وكأن لديهم رغبة في لمسي حتى يتأكدوا أن ما يشاهدونه حقيقياً وليس محض خيال: أن امرأة مصرية تتحدث إليهم وتزور أرضهم.
بالنسبة لي ولأول وهلة لم اشعر بأي شيء مختلف في هذا المكان.. مجرد فلاحون يزرعون الأرض، ويتحدث معظمهم لغته الأصلية، وهي واحدة من اللغات الأصلية العديدة التي يتحدثها سكان هذه الأراضي في منطقة جنوب المكسيك قبل احتلال الإسبان لها وتحول اللغة الإسبانية إلى اللغة الرسمية للبلاد.
بدأ اللقاء مع سكان قرية “جيلاتاو” بالأسئلة التقليدية من ناحيتي، والتي يتلخص معظمها في طريقة عيش الفلاحين في هذه المنطقة، وما إذا كانت الزراعة هي النشاط الرئيسي، وما هي المشاكل التي يعانون منها … إلخ. لم تمر دقائق معدودة حتى اكتشفت أن الإجابات ليست فقط تقليدية، وإنما بدأت تضعني شيئاً فشيئا أمام عالم آخر.. عالم يحلم الكثيرون منا به دون أن نعرف تفاصيله، نتخيله ونناضل من أجله، لكننا لا نعرف أنه تحقق ومازال يتحقق بشكل ما في بقعة ما على هذه الأرض منذ آلاف السنين.. عالم له منطقه الخاص يحاول سكانه الدفاع عنه وعن استمراره وسط محيط تسيطر عليه قوانين العولمة وداخل بلد كالمكسيك تتآكلها الصراعات الحزبية والفساد وتجارة المخدرات.
هذه القرية التي زرتها هي واحدة من قرى جنوب المكسيك التي تشمل واخاكا وتشياباس (موطن حركة زاباتا الفلاحية الشهيرة)، وما رأيته وسمعته عن نظام العيش هناك لا يخص هذه القرية فقط، وإنما هو النظام المعمول به في حوالي ٨٠٪ من أراضي جنوب المكسيك. إذن فما سوف أحكيه هنا – عزيزي القاريء – ليس مجرد تجربة معزولة لقرية معزولة، وإنما هو طريقة حياة السكان الأصليين في هذه المناطق منذ آلاف السنين، حافظوا عليها وناضلوا من أجل استمرارها في مواجهة الدولة والأسلوب الغربي في التعامل مع الفلاحين ومع الأرض.
الأرض المشتركة.. العمل المشترك:
يتم اتخاذ كل القرارات بلا استثناء في أي قرية من هذه القرى من قبل الجمعية العمومية وهي التي تتشكل من مجموع العائلات التي يقطنون كل قرية.. تقوم كل عائلة بانتخاب شخص واحد يمثلها في الجمعية العمومية، وتتخذ هذه الجمعية العمومية قراراتها بالأغلبية المطلقة في كل شئون القرية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أما بالنسبة لشئون القرية الإدارية، فيتم تسييرها من قبل مجلس محلي منتخب كل ثلاث سنوات يتشكل من العمدة ومعه سبع أشخاص آخرين يتولوا كل المهام الإدارية الخاصة بالقرية بما فيها الشرطة والحسابات والتعليم والصحة… إلخ.
أهم ما في الأمر أن أعضاء المجلس المحلي بما فيهم العمدة ورئيس الشرطة لا يتقاضون أي أجر على الإطلاق، فعملهم تطوعي للمجتمع بشكل كامل، لأنه لا ينظر إلى هذه الوظائف باعتبارها مناصب ولكن باعتبارها مجرد وظائف يتبادل أهل القرية القيام بها عندما يحين دورهم.
الأراضي المحيطة والتي تدخل في حيز كل قرية هي ملكية جماعية مشاعية لكل الفلاحين، العمل فيها يتم وفقاً لقرارات الجمعية العمومية التي تُتخذ بالتصويت، فالجمعية هي التي تقرر نوعية المحاصيل التي سوف تزرع وهي التي تحدد الكميات التي تباع منها وأسعارها، كذلك تقوم بتوزيع مهام العمل بين السكان. العمل هنا ليس المقصود به فقط العمل الزراعي، وإنما كل ما يتعلق بالعمل الخدمي واليومي في القرية، فإذا كانت هناك حاجة لبناء مدرسة على سبيل المثال أو تنظيف حديقة أو إصلاح طرق القرية، فإن كل هذه الأعمال تعتبر جزءاً من الأعمال المجتمعية التي توزع مهامها من قبل الجمعية العمومية على أفراد القرية. من يقوم بهذه الأعمال، أي بناء المدرسة، أو تنظيف الحديقة أو إصلاح الطرق لا يتقاضى أي مقابل للقيام بها. فلأن الأرض للجميع وتمنح خيراتها للجميع على قدم المساواة، فكل الأشخاص الذين يشكلون جزءاً من هذا المجتمع لابد وأن يقوموا في المقابل ببذل الجهد والعمل من أجله.
هذا النمط من الملكية المشتركة والعمل المشترك ليس نمطاً تم استحداثه في العصر الحديث، إنما هو نمط الملكية منذ أن عاش الناس في هذه المناطق قبل وصول الإسبان إليها بآلاف السنين، فلم يحدث على مدار التاريخ أن كانت الملكية الخاصة للأراضي هي نمط للملكية. من هنا كان الصراع الدائم بين الدولة منذ دخول الإسبان إليها (منذ حوالي خمسمائة عام) وبين الفلاحين، في محاولات مستميتة من قبل الأولى لفرض الملكية الخاصة على هذه المساحة الضخمة من جنوب المكسيك. من وجهة نظر الفلاحين هذا الصراع ليس مجرد صراع بين شكلين من أشكال الملكية، إنما هو محاولة مستمرة من قبل الدولة لتفتيت الملكية المشاعية وبالتالي تفتيت وحدتهم وكسر قرارهم الجماعي، فلأن بيع الأرضي هو قرار لابد أن يتخذ بالإجماع من قبل أعضاء الجمعية العمومية، والتي يمكن أن يصل عددها إلى خمسمائة شخص، فهو بالتالي قرار شبه مستحيل.
لهذا السبب استطاع الفلاحون الحفاظ على أراضيهم على مدار كل هذه السنوات. أما بالنسبة لباقي الأراضي المكسيكية ولأن نمط الملكية الخاصة هو المهيمن، كان للدولة اليد العليا في شراء الأرض أو حتى نزع ملكيتها من الأفراد لتكون في النهاية في حوزة الشركات متعددة الجنسيات، لتكون النتيجة هي قطع الأشجار لبيع أخشابها أو تغيير نوع المحاصيل الزراعية أو تجريف الأرضي لتحويلها إلى مبان سكنية أو فنادق… الخ.
إنه النمط الذي أصبح مسيطراً في العقود الأخيرة، ليس فقط في المكسيك، لكن في الكثير من البلدان التي لم يستطع فيها الناس خلق أشكالهم التنطيمية القوية لحماية مكتسباتهم.
الشرطة المنتخبة:
لا تقف حدود سلطات الجمعية العمومية عند التنظيم الإداري والاقتصادي فقط، لكن كذلك تقوم بتنظيم الأمن، فكما يتم اختيار العمدة بالانتخاب – وهي وظيفة تطوعية غير مدفوعة الأجر- فإن قائد الشرطة أو المسئول عن الأمن يتم انتخابه أيضاً من قبل الجمعية العمومية وهي مسئولية يضعها المجتمع على عاتق أحد أفراده دون أن يتقاضي في مقابلها أي أجر بأي شكل كان.
لا توجد سجون في هذا القرى، فما هي العقوبة التي يمكن أن توقع على من ارتكب جريمة ما؟ تختلف العقوبة باختلاف حجم الجريمة، وتتدرج من العمل التطوعي في أعمال أكثر بكثير مما يقوم به الشخص العادي، وتنتهي في بعض الأحيان – في حال الجرائم الكبرى- بالطرد من المجتمع. هذه العقوبة هي أسوأ ما يمكن أن يحدث لشخص من السكان الأصليين، لأنها لا تعني فقط قطع الانتماء بالمكان الوحيد الذي يمثل كل شيء في حياة هذا الشخص، إنما كذلك نزع هويته عنه.
احتلال الأراضي من قبل الفلاحين:
لم يتوقف نضال الفلاحين في هذه المناطق على الحفاظ على الملكية المشاعية وعلى نمط عملهم الجماعي، لكنهم قاموا خلال فترة الثمانينيات باحتلال مساحات ضخمة من أراضي الدولة وتحويل ملكيتها من خاصة إلى مشاعية، يزرعها ويحصد خيراتها الفلاحون بشكل جماعي.
هذه الأراضي لازالت في حوزة هؤلاء الفلاحين حتى الآن، فهي التي ناضل من أجلها الآلاف ودفع الكثيرون حياتهم ثمناً لتكون حقا لمن يزرعها. ولم تكن حركة “زاباتا” الشهيرة في منطقة تشياباس إلا أعلى الأشكال التنظيمية لهذه الحركات الفلاحية وأكثرها قوة وتأثيراً بين الفلاحين في مواجهة الدولة.
هذه الحركات القوية المنظمة هي التي فرضت على دولة المكسيك في عام ١٩٩٢ أن تنص في دستورها على حق الفلاحين في إدارتهم الذاتية لقراهم وعلى الاعتراف -أخيراً- بالجمعيات العمومية باعتبارها الشكل الإداري للحكم الذاتي في هذه المناطق.
الاعتزاز بالهوية في مقابل الشوفينية:
إن أكثر ما لفت انتباهي خلال الزيارة الأولى وتأكد لي بعد زيارتي الثانية لـ \”واخاكا\”، هو هذا القدر من اعتزاز الناس هناك بهويتهم باعتبارهم من السكان الأصليين، والهوية بالنسبة لهم هي بالأساس موقف من الحياة.. هي طريقة يتعاملون بها مع التفاصيل اليومية ومع بعضهم البعض.
الأغرب من ذلك أن هذا القدر من الاعتزاز بالهوية لا يقع بأي شكل من الأشكال في مستنقع الشوفينية أو الاستعلاء على الآخر، أو على العكس في مستنقع \”الشعور بالنقص\” ناحية الآخر \”المتفوق\”، والذي يمكن اعتباره الوجه الآخر للشوفينية.. بالنسبة إليهم، فإن الساكن الأصلي ليس هو من يرتبط بهم برابطة دم أو يتحدث لغتهم، إنما هو الشخص الذي يتبني هذا الموقف المجتمعي تجاه الحياة، بنفس المنطق حتى لو كان الشخص إبناً لهم، لكنه على العكس تبنى نمط الإنتاج والملكية الرأسمالية الغربية كنمط لحياته، فإنه لا يكون من السكان الأصليين.
أفضل مثال على هذا أن “بينيتو خواريث” الذي يعتبره المكسيكيون أفضل رئيس في تاريخ المكسيك، هو من قرية “جيلاتاو” التي قمت بزيارتها. هناك.. يعتز ويفخر سكان القرية بأن هذا الرئيس الأسطورة قد ولد في قريتهم، رغم ذلك فهم لا يعتبرونه واحداً من السكان الأصليين، لأن مسار حياته ارتبط بالمجتمع الرأسمالي بكل قوانينه، حتى وإن كان قد ناضل لتحسين حياة الناس ولخلق مجتمع عادل.
بعدما استمعت إلى كل هذه القصص وبعدما تعرفت على حقيقة هذا العالم المثالي والحقيقي في آن، تساءلت ببراءة: \”وما هو الفرق بينكم وبين بقية المكسيك.. لماذا يعانون هم من الفقر والعنف والمخدرات، وهنا لا يحدث نفس الشيء؟\”
وببساطة جاء الرد: \”في بقية المكسيك عمل الشرطة هو عمل للسلطة مدفوع الأجر، وبالتالي يحكمه الفساد والرشوة، ومن ثم العنف، أما هنا، فالحفاظ على الأمن هو عمل تطوعي.. يختار الناس من يقوم به، وبالتالي لا مجال للفساد أو العنف.
الأهم من ذلك، توجد في تلك المناطق التي تعاني المصائب الاقتصادية والاجتماعية أحزاب سياسية وليس جمعيات عمومية مثلنا، وبالتالي الصراع الرئيسي هو من أجل الوصول إلى السلطة بأي ثمن.
بالنسبة لهذه الأحزاب، فإن تشكيل قوة جماعية من الناس تستطيع أن تفرض شروط حياة إنسانية، ليس من الأولويات.. الأهم هو أن يكسب أي حزب من هذه الأحزاب مقاعد في البرلمان باستخدام أصوات الناس، لكن ليس بقوتهم الضاغطة\”
عند هذه النقطة من الحديث وبعد سماعي لكل هذه التفاصيل، بدأت أشعر بنفس مشاعرهم نحوي عند وصولي إلى هذه القرية.. الآن.. أنا التي انظر بدهشة إليهم، ويدور رأسي بين الوجوه والعيون حتى لا تغيب عني أي تفصيلة، وأحاول قمع رغبة جياشة في لمس كل ما يحيط بين حتى أتأكد من أن كل هذا ليس مجرد حلم من أحلام اليقظة.
ببساطة لم أتخيل أنني سأعيش لأرى في مكان ما على هذه الأرض، عالما أفضل تحقق ويتحقق، ليؤكد لنا مرة بعد مرة أن ما نحلم به ليس محض خيال أو \”يوتوبيا\”، إنما الآلاف والآلاف من البشر في نقطة ما على هذه الأرض يعيشونه كواقع لا بديل عنه.