أمل الفاعوري تكتب: "هذا المساء".. العمل المكتمل بين المحاولات الدرامية الرمضانية

 

*تنويه: قد يحتوي المقال على كتابة بعض الأحداث التي تحرق مشاهدة العمل.


كنا في كل مساء على موعد لعرض فيلم جديد، في أول مساء نتعرف على أنفسنا ومن حولنا وتتوالى الأمسيات لنرى كيف يتمكن الواقع من تشويه شخصياتنا وكيف نسمح لهذا العالم العصري الذي نعيشه بأن يزيدنا بشاعة، هكذا أراد تامر محسن لفيلمه اليومي المسائي أن يكون، وأفضل تسميته فيلم مسائي يومي لأن محسن أجلسنا في قاعة السينما وعرض أمامنا ما نشاهده يوميًا أي جعلنا نتفرج علينا وعلى دواخلنا من أفكار ومشاعر، هذه الدراما الحقيقية التي نافس بها كل فريق عمل \”هذا المساء\” في رمضان هذا العام بمسلسلهم الذي سار بخطوات محبوكة بدقة وأعلن عن نفسه بأنه الأحق بلقب العمل المكتمل بين كل المحاولات الدرامية.
يصرّح العمل من أول حلقة بأن بطله الرئيسي هو التكنولوجيا، عندما نرى رمزية السينما المهدمة التي أصبحت مكان عرض مشاهد حقيقية حياتية، كأن هواتفنا اليوم هي تذكرة دخولنا لعالم الآخرين وكأن حياتنا بكل بساطة أصبحت مادة عرض دون إذٍن منا، وكما يكرر سوني في مشاهده، فيكفي أن تشبك على الإنترنت وتدخل إلى رابط مرسل ما حتى يتملّك أحدهم حياتك ويصبح المونتير فيها ويقص ويركب ما يريد منها، ولكن السؤال الأخلاقي الذي يطرحه العمل بشكل غير مباشر: هل لو أتيح لنا فرصة التجسس على حياة أحد ما سنقبل بذلك؟ وأظن أنه أراد منا أن نفكر قبل الإجابة لنعلم بأن داء مشاهدة حياة الآخرين يسكننا جميعًا وأن الشيء الذي يفعله سمير اعتبره مشينًا عندما فعله فياض، وأنه نفس الفعل الذي أراد سوني حماية تقى منه، فعله لها بمجرد رفضها له! العمل يضعنا أمام مواجهة أنفسنا ومواجهة حقيقة كون الواقع الحالي يقتات الإعلام فيه على الفضائح الشخصية وتسريبات معينة ليس من حق أحد الاطلاع عليها، وهذا الذي لم ينس العمل إظهاره في شخصية الإعلامي حازم، الإعلامي الذي يكثر وجود نماذج اليوم على شاكلته والذي يقوم به ما هو إلا إظهار الضحية كجاني، وعندما ننظر بتركيز على حياته وعلاقته بسارة، نجدها ما إذا خرجت للناس على يد إعلامي آخر من نفس المستوى، تصبح مادة دسمة للحديث فيها، وهكذا يظل المسلسل يرينا التناقض الصارخ الذي يعيشه المجتمع ودون أن يشعر بذلك.
نرى هذا التناقض في حياة أكرم، الرجل الذي يمتلك كل شيء على مستوى العمل والمستوى المعيشي ومتزوج من ابنة رئيسه في العمل، حياة مخملية هادئة توصلهم لمرحلة الملل في العلاقة وبمشهد واحد فقط معنون بـ\”الرغبة\” ينظر فيه أكرم إلى عبلة صاحبة مسمط للأكل الشعبي بتعبيرات وجهه التمثيلية الاحترافية واللون الأحمر الطاغي على الكادر وشالها ينسدل عن شعرها بالعرض البطيء، نعلم أن أكرم رأى فيها ما لا يعرف تفسيره.

 

شخصية أكرم شديدة التعقيد، له ماضٍ مع والده وله حاضر مع امرأتين إذ لا مبرراته واضحة ولا دوافعه مؤكدة، غامض وهو بذاته لا يعرف ما يريد وبعدم قدرته على الحديث عن نفسه بوضوح، نرى تفاصيل وجهه المُرهقة وجسده المنهك توحي بكمّ التفكير والحيرة والضغط والشك الذي يعيشه، إلى أن يصل لمرحلة يرى فيها كل ما بناه وهو ينهار، فيظهر ذاك الوجه الذي على استعداد أن يوقف كل ذلك ولو كلفه قتل جنين المرأة التي ادّعى حبها.

عبلة التي لم تتزوج أكرم لمجرد وجود رجل في حياتها أو لحاجة مادية كما اعتدنا أن نرى سبب هكذا زيجات، تزوجته لحاجتها \”حد يطبطب عليها\” كما أخبرت سمير في مشهد مميز، وعند علم نايلة التي كانت تحاول أن تكون علاقة زواجها تامة النجاح حتى لا يصبح مصيرها كما والدتها ووالدها، تقوم بانتقام يؤكد على طبيعة شخصيتها بزرع الشك داخل أكرم، لذا فتقابل إياد نصّار حنان مطاوع وأروى جودة في التمثيل الاحترافي اللتان تؤديان شخصياتهما بكامل الإتقان، وليؤكد العمل بوصف نفسه مكتملًا يقارن بين حياة أكرم مع عبلة ونايلة باستخدام إضاءة وألوان شديدة التناقض، امتلأت كادرات أكرم ونايلة بالألوان الحيادية الرمادية الباردة وكادرات أكرم وعبلة بالألوان المتنوعة الفاتحة المبهجة، عدا عن التباين الجميل في الديكور والملابس للشخصيات، واختلاف الأصوات الموسيقية المسموعة في مشاهد كل منهما، من هنا كان الاختيار الدقيق والمميز لأغاني أم كلثوم ووردة والأغاني الصوفية التي يستمع لها \”سمير\” الفنان أحمد داوود عند ذهابه ليلًا لصاحب المركب يشكي حبه وعدم مقدرته كرجل شرقي على تخطيه لمشكلة تقى، الوجه الجميل الذي يشبهنا والذي قدمه تامر محسن كوجه جديد، أسماء أبو اليزيد المبهرة.. الفتاة القادمة من الإسماعيلية والتي ارتكبت \”غلطة عمرها\” -على حد تعبيرها- بعلاقة مع شاب والتي استخدمت منصات التواصل الاجتماعي لتشعر بالأمان بعد كل التهديدات التي وصلتها بفضح سرها، وفي حين يكون هذا هو خطأها الأكبر الذي لا يشعرها بالأمان تعمل عند أخت نايلة نادين وتصادقها لتكتشف أنها لا تشعر بالأمان كذلك مع قدرتها على إقامة ما شاءت من العلاقات دون تعرضها لمشكلة من ذات نوع مشكلة تقى، وهذا إن دل فإنما يدل على تكامل واضح في بناء الشخصيات ومتطلباتها والتناقض فيما بينها، لنرى تدليلًا على ذلك علاقة شريف بسارة، شريف الذي يحب فتاة لثلاث سنوات ويعيش معها دون زواج ثم ينفصل عنها لأنه لا يتقبل فكرة الزواج من فتاة قبلت أن تسكن معه، ليتزوج الفتاة التي تشير عليها أخته كفتاة ملتزمة وتصلح لتكون زوجة والذي لا يعرفه شريف أن سارة عاشت نفس الماضي الذي عاشه هو ليلبس كل منهما قناعا أجبرهما المجتمع على ارتدائه حتى يشعران برضاه عنهم.

 

قمة اللامنطقية التي يرينا إياها المسلسل بكامل الوضوح، ثم نصل للثنائي اللذين سلما نفسيهما لعلاقات ثانوية تحكمها رسالة صوتية و\”بوستات فيسبوكية\” شقيقة أكرم هند وزوجها اللذان لجأ لتلمحيات ومغازلات خارجية ليكسرا ملل الحياة الروتينية التي يعيشانها حتى يكشفان لبعضهما دون كلام أن هذه العلاقات ما هي إلا عابرة وأن حياتهما على أرض الواقع هي العلاقة الوحيدة الحقيقية بوجود كل هذا الوهم المحيط، وصولًا للوهم الأكبر الذي يعيشه سوني، الممثل العبقري محمد فراج الذي يؤدي دوره بتفرّد لم نره قبلًا، الشاب الذي يعاني من الوحدة ويعوض ذلك بإجباره عددا من الفتيات بإقامة علاقة معه، وتحت وقع التهديد بفضحهن، محاولًا جعلهن يحببنه، إذ يسأل دعاء في مرة عما إذا كانت تأتي من أجله أم من أجل ما معه مما يمكن نشره ويسيء لها وتجيب أنها تأتي خوفًا منه فيخبرها بألّا تأتي مرة أخرى، وكذلك تظهر شخصيات كنعمة، أم عبير التي أدّت بإبداع كبير وغيرهن، ويرينا المسلسل سوني يريد الزواج بعبلة، ثم تقى. كمّ من التخبط الكبير الذي يشعر به سوني في سبيل أن يعيش مع إحداهن لتهتم به كـ\”سوني\” فقط، ورغبته بأن تحبه لشخصه، نراه واضحًا من خلال مشاهد المواجهات العظيمة بين سوني وسمير، طاقات تمثيلية مختلفة وحوار حقيقي سلس بعيد عن الانفعال غير المبرر، وتصوير متقن وغير متكلف وموسيقى أمين أبو حافة التي لا تنفك عن إيصال كل مشهد للكمال الدرامي حقيقًة، ولا ننسى ذكر علاقة تريكة التي كان يؤمن فيها بالحب بالرغم من البيئة التي يتواجد فيها حتى تستمر موجة الخيبات الواقعية والصدمة تجاه حقيقة كل ما نحمل في دواخلنا، والظهور المميز جدًّا للطفلة نور التي تحلم بأن تكون ممثلة في وسط يمثلون فيه عليها أدوارهم، والكثير من الشخصيات الأخرى المكتوبة بحرفية والتي يظهرها تامر محسن لا كممثلين ثانويين ليكتمل المشهد، بل كشخصيات حقيقية يكتمل بها العمل، مثل حامد وفياض والدكتورة هدير وضاحي وهاني، لكلٍ منهم قصته الخاصة ومشاعره وانفعالاته ومساحته التي يبرزها العمل دون أي تعدّي، هذا الطاقم التمثيلي الذي عكس جودة العمل وقوة النص المكتوب الذي أخرجهم لنا تامر محسن هو الذي رفع من رصيد العمل لدى المشاهد، أصبح يرى في إحدى الشخصيات نفسه ويشعر إزاء أحدهم بالتعاطف في مشهد والبغض في مشهد آخر.

 

أؤكد أن هذه هي الدراما الحقيقية، هذا هو الإنسان الذي يعيش في الحياة لا شيطانا ولا ملاكا، هكذا تصبح دراما حالات وليست فقط قصة والسلام، دراما نعيش بها مع الشخصية بكامل مشاعرها وأفكارها وأسبابها وأفعالها، وبذات الوقت لم يفقد العمل عنصر التشويق الذي يبقيك على علاقة قوية به لتشاهده، لأنه يحمل تسلسلا وحبكة معدّا لها جيدًا ومن الواضح أن طهيها تم على نار هادئة.
أغدق علينا \”هذا المساء\” كثيرًا، منحنا جملا حوارية سنظل نذكرها، منحنا مشاهد جميلة وانتقالات بين الفنادق البرجوازية والحارات الشعبية بسلاسة غير معتادة، منحنا إضاءة وألوانا أدخلتنا داخل المشهد، منحنا قصصا وشخصيات معقدة وسهلة بذات الوقت، منحنا لقطات اعتراضية (كت أويز) مليئة بالرمزية والجمال الفني، منحنا موسيقى تعلق بالأذهان، منحنا عملا رمضانيا نهايته لا تختلف عن أناقة بدايته، أظهر فيها حقيقة الفيلم اليومي المسائي الذي يحدث بالواقع يوميًا وهو يحترق، صوّره على أنه حياتنا التي نشاهدها كل يوم وهي تحترق أمامنا ولا نفعل إزاء ذلك سوى إخراج هواتفنا الذكية وتصوير هذا الاشتعال لنريه للآخرين وكل ذلك بحركة ذكية من تامر محسن ومشهد نهائي لفراج في قمة الإبهار يتحدث عنا وعما وصلنا إليه من بشاعة داخلية وخارجية، ليستحق هذا العمل اللقب الذي أطلقته عليه بأنه العمل المكتمل بين المحاولات الدرامية هذا العام.

يقدّم لنا تامر محسن في نهايته فسحة أمل بعد الحريق ويضعنا في وسط البحر بمشهد رومانسي جميل بين تقى وسمير ونور الطفلة مع صاحب المركب وهو يغني \”وإن قَسَمَـت لي أن أعيش متيَّما، فشوقي لها بين المحبِّين شائعُ، يقول نساء الحي: أين دِياره؟ فقلت: دِيار العاشقين بلاقِعُ\” في وضح النهار بعدما كانت مشاهد المركب كلها ليّلية، ليعلن الحب انتصاره بعد كل الأمسيات الصعبة التي عاشوها، تظل عودة الحب بعد العناء والأمل بعد الألم والشمس بعد المساء، الضرورة التي أرادها لنا أصحاب العمل أن نبتسم لأجلها عندما ينتهي \”هذا المساء\”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top