لعل الغاية من الحياة على الأرض هي أن يعيش الجميع سعداء، وفي هذه الحالة يكون الشخص الذي يحمل على عاتقه مهمة إسعاد من حوله مثالياً، ولكن ماذا عمَّن يستمد سعادته من كونه سببا لسعادة الآخرين؟ حسنا، أنا أؤمن أنه الأكثر مثالية والضيف الأكثر خفة على هذا العالم، أو فيما معناه، هو كائن \”الشابلن\”.
هذا الرجل يعتبره الكثير من النقاد أحد أهم المؤثرين في تاريخ صناعة السينما، ويضعه بعضهم بمثابة مرحلة مستقلة ضمن هذا التاريخ، فيصبح هناك مرحلة ما قبل شابلن وما بعده، وبعيدا عن تقييمه على المستوى السينمائي، فقد كانت فلسفة الضحك لديه على غير العادة، فنحن لا نحتاج من أجل التفاعل معه سوى عينين وأبسط عقل ممكن، ولا أبسط من هذه فلسفة للضحك، تناسب كل شخص، مهما كانت سماته وسمات العصر الذي يعيش فيه.
قرأت تعليقا لإحدى المعلمات على مقطع فيديو على يوتيوب تقول فيه أنها عرضت هذا المقطع على طلابها الأطفال، فلم يتوقفوا عن الضحك رغم أنه صامت وبالأبيض والأسود. هذا المقطع كان مشهد الملاكمة من فيلم City Lights (أضواء المدينة).
نقطة التحول الأولى في مسيرة شابلن كانت في اختيار شخصية الصعلوك، بما يميزها من العصا والقبعة والشارب والقدمين المفلطحتين والسترة المهترئة غير متناسقة المقاسات، والتي تمتزج بأسلوب أرستقراطي واثق ومفتعل يؤديه شابلن ويجعل من مجرد مشيته وتعبيرات وجهه أقل أسباب الضحك لكل المستويات العمرية.
الفيلم القصير الأول الذي ظهر فيه كائن الشابلن بهذه الشخصية كان Kid Auto Races at Venice (سباق سيارات الأطفال في فينيسيا)، وبالرغم من كونه الأول، إلا أنني أعتبره أحد أفضل أفلامه القصيرة على الإطلاق.
لاحظ عدد الجمهور الغفير الذي تواجد أثناء تصوير الفيلم دون أن يفسده، ذلك لأن شابلن لم يكن على قدر كبير من الشهرة حينها.
الفيلم عبارة عن سباق لسيارات الأطفال يتم نقله على التلفزيون، لكن هناك متشرد يأبى أن تنقل الكاميرا السباق دون أن يظهر في الكادر، مما يضعه في شجار دائم مع من هم خلف الكاميرا.
ما يجعلني أعتبره الفيلم القصير الأفضل، هو طريقة الحكي المميزة التي اعتمدها، فأنت في البداية تشاهد الفيلم من منظور الكاميرا التي تنقل السباق، أنت الكاميرا وهناك متشرد يسير أمامك أينما تذهب وينظر إليك نظرات مريبة، ذلك حتى ترى شخصا آخر يظهر فجأة ويدفعه ليبعده عن مجال رؤيتك، أي الكادر، فيتحول منظور الفيلم إلى الكاميرا التي ترصد كل ما يحدث، فتجد أمامك رجلا يقف أمام كاميرا أخرى أينما ذهبت.
شابلن هنا قدم الشخص \”الغلس\” كما يجب، حتى تتسبب هذه \”الغلاسة\” في أن يتعرض له فريق العمل خلف الكاميرا بالدفع والضرب دون أن يؤثر ذلك على \”غلاسته\”.
نجحت شخصية الصعلوك في السنوات التالية بشكل غير متوقع، وكان شابلن يقدم سنويا ومنذ 1914 عشرات الأفلام القصيرة، حتى اتجه مع الوقت إلى تأليف وإخراج أفلامه، وفي بعض الأحيان تأليف الموسيقى التصويرية لها والغناء أيضا – لاحظ أنني ذكرت الغناء رغم أن الأفلام كانت صامتة حينها، إلا أن الفيلم الصامت The Circus (1928) (السيرك) يحتوي على أغنية في مطلعه، كان شابلن قد سجلها عام 1969 وأضافها إلى نسخة الفيلم حينها، وكان عمره حينها 79 عاماً.
أغنية Swing little girl من فيلم The Circus
فيلمه الطويل الأول بشخصية الصعلوك كان The Kid (الطفل) من تأليفه وإخراجه وبطولته، ويحكي قصة أم تتخلص من ابنها المولود حديثا، فتتركه في الشارع حتى يجده متشرد فيأخذه ليربيه. هو العمل المقتبس منه فيلم (دهب) لأنور وجدي والطفلة فيروز.
من أهم ما يميز الفيلم وجود \”التيمة\” التي اعتمدها شابلن في معظم أفلامه، والتي أغضبت الحكومات منه، وهي وجود الشرطي الذي يتحول إلى أضحوكة بشكل مستمر، لكن سواء كان هذا بقصد استفزاز الحكومات أم لا، فهو وسيلة تنفيس يستخدمها الناس للتعبير عن سخطهم أمام أي سلطة، حتى ولو بمجرد الضحك على شرطي وهو يقع على مؤخرته.
لم يكن هذا هو العنصر الإيجابي الأبرز في الفيلم، لكن الطفل \”جاكي كوجان\” كان اكتشافا مذهلا، استطاع أن يبارز شابلن في المشاهد الكوميدية والبكائية، تخيل، هذا فيلم كوميدي يجعلك تضحك وقد يجعلك تبكي أيضا.
مرور السنوات أثقل موهبة شابلن السينمائية، فبجانب التمثيل هناك التأليف والإخراج، وفي عام 1925 يخرج علينا بفيلم صامت طويل آخر هو The Gold Rush (البحث عن الذهب)، أصعب أفلام شابلن إخراجيا، لأن أحداثه تدور في منطقة جليدية، مع الوضع في الاعتبار الإمكانيات السينمائية الموجودة حينها، ومع ذلك فالناتج كان السهل الممتنع مع الحفاظ على جرعة الضحك المعهودة. أحد أفضل المشاهد في الفيلم هو المشهد الذي يصنع فيه شابلن استعراضا على طاولة الطعام بالشوكة والسكين لينال رضا الفتاة الجميلة.
مشهد استعراض طاولة الطعام في The Gold Rush
بعد عامين يقدم شابلن فيلم The Circus (السيرك)، والذي على الرغم من عدم نجاحه جماهيريا حينها، إلا أنه أكثر أفلام شابلن كوميدية على الإطلاق، تخيل معي شابلن في السيرك، وأنت ستضحك قبل أن تشاهد شيئا.
أحد أهم وأخطر مشاهد شابلن التي أنجزها في حياته هو مشهد الأسد في فيلم السيرك، الرجل امتلك الجرأة والشجاعة ليؤدي مشهدا مع أسد ونمر داخل قفص واحد دون أن يصيبه الخوف، حقا لا أدري إن كان بالفعل قد تواجد مع الأسد في القفص نفسه أم أنها خدعة سينمائية، مع الوضع في الاعتبار إمكانيات عام مثل 1928، لكن يمكنك المشاهدة والحكم، ومع ذلك ففي كلا الحالتين، هناك شغف وحرفية لا حدود لهما يمتلكهما هذا الرجل.
شابلن يسير على الحبال في The Circus
بلا أدنى شك، الفيلم الأكثر جماهيرية بالنسبة لشابلن هو City Lights \”أضواء المدينة\”، بسبب الكوميديا التي تحيط بقصة درامية بطلتها فتاة كفيفة تعتقد أن الصعلوك الذي يقدم لها يد المساعدة شخصا ثريا، كما أن لقطة النهاية في الفيلم يعتبرها عدد كبير من النقاد والجماهير واحدة من أعظم نهايات الأفلام في تاريخ السينما، ومن شاهد الفيلم لا ينسى نظرة شابلن في هذا المشهد أبداً.
لا تفوت مشاهدة مشهد الملاكمة من الفيلم، والموجود بالأعلى.
آخر أفلام شابلن الصامتة الطويلة كان Modern Times \”الأزمنة الحديثة\” في عام 1936، وقد استعرض الرجل أثر التطور الذي يجعل الآلات تحل محل الإنسان، الذي يبقى عاطلا بلا عمل. لم تغب الكيمياء بين شابلن والآلات أبدا، فقد تم اختراع بعض الماكينات والآلات من أجل الفيلم خصيصا، والتي نتج عنها جرعة من الكوميديا، بعضها في هذا المقطع.
جاءت السينما الناطقة، واعتاد الجمهور على الصعلوك صامتا، لكن عندما ينطق، ماذا سيقول؟!
كان شابلن يرى أن قوة الصعلوك في صمته، الذي يمكنه من خلاله أن يقوم بإضحاك الجميع وأن ينقل ما لا يمكن للكلام أن ينقله، لكن اتجاه الجمهور للأفلام الناطقة اضطر شابلن إلى صناعة فيلم يتحدث فيه الصعلوك بأقل قدر ممكن من الكلام ويصبح الظهور الأخير للشخصية.
كان فيلم The Great Dictator (الديكتاتور العظيم) الذي جسد فيه شابلن شخصيتين، فبالإضافة إلى الصعلوك، هناك الزعيم النازي \”هتلر\” الذي جسده ليسخر منه، ومع أن الفيلم ليس بقوة أفلام الصعلوك السابقة، إلا أنني أرجح أن شابلن أنجز الفيلم بالكامل من أجل مشهد النهاية فقط، والذي أراد أن يقول من خلاله رسالة الصعلوك إلى العالم.
المفارقة أن تكون الرسالة التي يوجهها \”الشابلن\” بلسان \”هتلر\”، لنودع الصعلوك نهائياً، وينتقل شابلن إلى مرحلة سينمائية ناطقة ومختلفة تماما عما صنعه من قبل، وإن كانت فلسفته واحدة.