أصل القصة، في سبعينيات القرن العشرين.. حدثان مهمّان في الشرق الأوسط، أقلقا الولايات المتحدة -وحلفاءها- بشدة على أمن إسرائيل.. أولهما خلل نظرية التفوق العسكري الإسرائيلي أمام مصر في سيناء، والثاني قيام جمهورية إسلامية شيعية في إيران.
عندها بدا للأمريكان، أن سياسة الحفاظ على التفوق الإسرائيلى، لن تكفي وسط هذه البيئة العدائية. ولابد من سبيل لتوجيه تلك العدائية، تجاه وجهة أخرى، سوى إسرائيل.. هنا يمكن أن نمسك بطرف خيط.
ماذا حدث فيما بعد؟
تم ترويض سياسات مصر، والسيطرة عليها عسكريا في كامب ديفيد، وظهر حلف مع أمراء الجهاد، لمكافحة الشيوعية في العالم.. لم يمنع أمريكا من الانقلاب عليهم فيما بعد، واتخاذهم ذريعة لاحتلال بلاد بأكملها، ثم قامت الحرب العبثية ذات السنوات الثمانية، بين إيران والعراق، بدعم عربي أمريكى، تحت لواء صدّام حسين، وكانت أولى صولات العرب بعد كامب ديفيد، وسقط فيها من الضحايا، ما يفوق ضحايا حروبهم ضد إسرائيل.
انقلبت الولايات المتحدة –كما فعلت مع الجهاديين- على صدّام، ولأسباب غير مقنعة احتلت بلده. وكان أمامها فرصة لترسيخ العلمانية كأساس للدولة الناشئة، في بلد شعبه خليط ديني وعرقى، لكنها لم تفعل، بل رضيت بطائفية برلمانية، وتقسيمات على أسس الدين والعرق. وهي سياسة طالما عانت الفشل، وتتعارض أصلا مع ثوابت أمريكا والغرب.
بعدها فرّت من العراق قبلما تضمن أمنه، تاركة عشرات الألوف من الشباب المتحمس –السنّي والشيعى- رهن شائعات الشحن المذهبي والفتنة، وتحت إمرة أمراء الحرب من الطرفين.
ما يبدوغريبا أن الولايات المتحدة رحبت بالإسلام السياسى. وتعاملت مع قناعاته الدينية، بأريحية مريبة، ولم تشرط العلمانية، كأساس لأي إصلاح ديموقراطي حداثي في الشرق الأوسط، رغم محاولات الحكام العرب، تحذير الإدارة الأمريكية، من الجماعات الإسلامية السنّية، ومن إيران وأتباعها، على حد سواء.
الأمريكان برروا قبولهم للإسلام السياسي بنظرية برجماتية مفادها: \”السلطة ستجعلهم ينحون الجهاد جانبا\”، بينما الحقيقة، أن السلطة ستدفع دفة الجهاد تجاه منافسهم الأول في المنطقة، إيران وأعوانها. مما يجعل الحرب على إيران شرعية وشعبوية، والأهم من هذا كله، أنها لا تهدد أمن إسرائيل، بالعكس، فالمفروض أنها تهدد من يهدد إسرائيل، وهو ما تريده أمريكا بالضبط.
اذكر أن الولايات المتحدة نصحتنا بالإصلاح الديني، وحذف نصوص الجهاد، بعد حادث البرجين في نيويورك، وقد رفضنا جميعا هذا التدخل في شئوننا.. أمريكا كانت على يقين أن العرب السنّة، لن يستجيبوا لنصحها، لذلك كانت تضمر أمرا من نوع مختلف.
انتشرالاسلام السياسي من جديد في المنطقة العربية، بعد كامب ديفيد، ومعه ظهرت المظاهر الإسلامية على المجتمعات، ورويدا استبدلت الهوية العربية بأخرى إسلامية، وكلاهما تم إحياؤه بعد هزيمة فلسطين.. الهوية العربية كانت أكثر رواجا في الشرق الأوسط، ثم خبت بفعل كامب ديفيد، ولم تعد تعني الكثير للبعض. وتركت لنا تجربة سياسية متعثرة بين القطيعة والعجز، والفساد والاستبداد، وفي النهاية الخواء السياسي والديمقراطية المزيفة.
اعتاد الإسلاميون ممارسة نشاطهم تحت الأرض، في ظل قمع الأنظمة العربية، التي كانت لا تقبل المنافسة. وبعد كامب ديفيد، ظهرت لهم بصمات باهتة في المشهد السياسي الرسمي -في بعض الدول العربية- الذي كان صوريا في تحوله الديمقراطي على أي حال. ومثّل الإسلاميون معارضة لها الحق في المنافسة على بعض المقاعد، ومارسوا العنف من آن لآخر. وظلوا تحت الملاحقة الأمنية. وتعرضوا للتنكيل أحيانا، وبقوا في كل الأحوال يعملون تحت مظلة الدين.
اندلعت الثورات العربية، في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، في شكل علماني خالص.. لم يكن فيها –في البداية- أي مظاهر أو شعارات أو مطالب دينية، كما أنها أربكت الولايات المتحدة، لخروجها عن \”الباترون\”.
خرج الإسلاميون للسطح، وظهر الإسلام السياسى، كأكثر القوى السياسية تماسكا، في الشرق الأوسط، وسرعان ما ظهرت على الإسلام السياسي شواهد لهشاشة هذه الهوية البديلة، سياسيا واجتماعيا على الأقل، وظهرت شواهد أخرى، على خطر هذه الهوية، كسلوك مذهبي وتكفيرى، وأخيرا، وبسبب ممارسة السياسة في النور، للمرة الأولى أمام الناس.. بدت على الإسلام السياسي العنصرية والغلظة بوضوح، وهي نفس التهم التي يتّهمون بها إيران.
ارتكب الإسلاميون عدة أخطاء – كانت منتظرة منهم- في ملفات الأقليات وحوار الأديان، واستخدموا مواقع التواصل والفضائيات، في الحشد والتمييز، أكثر من استخدامها للتقارب والتعايش. وأخذ الجميع يدفع إلى التصادم.
راحت الأمور إلى الأسوء.. سلك بعض الأئمة سلوك الصبية.. وجدناهم على منابر السنّة يلعنون الروافض، وعند الشيعة يلعنون النواصب.. السنّة يسخرون من المهدي، والشيعة يسبّون الصحابة.. هؤلاء أنجاس وأولئك أقذار.. أبناء متعة وأبناء مسيار، والحوار المتبادل سب في المقدسات والأعراض.. ياللهول إنها الفتنة في بلاد المسلمين!
تعثّرت تجربة الثورة في سوريا، وبقيت انتفاضة إقليمية، وكان من يدفعها -عن عمد- إلى شرارة \”الحرب المذهبية\”.. نعم هي الحرب التي كانت أمريكا تنتظرها في العراق، نكاية في إيران المتمردة.. هاهي تأتي من البلد المجاور سوريا.
حماقة ارتكبها السوريون –قيادةً وشعباً- لا تغتفر، حين ثار بعض السوريون تحت شعارات مذهبية، ورفعوا دعوات الجهاد العنصرية. بينما النظام يستعين بميليشيات شيعية.. عار لن يمحوه التاريخ بسهولة من على جبين سوريا.
لجأ الكل إلى حصن الدين، وعلت أصوات غلاة السنّة والشيعة، وتحت لواء الإسلام، ارتكبوا جميعا أحط ما في نفوس البشرية من جرائم. حتى في الأشهر الحرم.
اكتشف الناس في بداية القرن الحادي والعشرين –بفضل نصيحة أهل الدين- في بلاد العرب والشام والعراق وفارس وغيرهم –خلال أقل من أربعين عاما من الحقن المذهبي- أن الشيعة أشد كفرا من قريش. وأنهم أكثر خطرا على المسلمين من إسرائيل، وهناك في إيران، أصبح الناس يحسبون كل السنّة من نسل بني أمية.
وأخيرا.. تحول الشرق الأوسط من الصراع العربي الإسرائيلى، الذي ظهر في منتصف القرن العشرين، لحرب مقدّسة بين السنّة والشيعة، في بداية القرن الجديد!
حرب دينية تخطت النظم الدولية، إلى فتنة الشعوب، وطالت سوريا والعراق واليمن وغيرهم.. تشارك فيها السعودية وتركيا وقطر وغيرهم. في مواجهة إيران وأعوانها من شيعة الشرق الأوسط، مع عدو ثالث مشترك ضد كل الأطراف، وهو الجهاديون السنّة.. مشهد معقد مختلط غير مستقر، ودامي جدا.. ملىء بأبشع جرائم الحرب، والتمييز العنصرى.
لم يسلم منه حتى الآن من بلاد الثورات العربية، إلا تونس ومصر، في الوقت الذي تراقب الولايات المتحدة، أكثر مما تتدخل، وكأنها ارتاحت لهذا النزيف المستمر في الشرق الأوسط، كالرسام الذي ينظر إلى لوحته التي أتمّها، إلا من لمسات قليلة.
عموما.. في كل الأحوال.. بات واضحا جليا أن أكثر ما يقلق أمريكا والعرب أو السنّة، في الشرق الأوسط، هو النفوذ الإيرانى، في الوقت الذي تمارس إسرائيل نفوذها في الشرق الأوسط، وتشن الحروب، وتطول من تريد أن تطول، دونما معترض، ليكون في النهاية المستوطن الإسرائيلي على أرض العرب، أكثر أمنا من العرب أنفسهم! ها هي المؤامرة قد وقعت أيها السادة، لو كانت هناك مؤامرة من الأساس!