بينما أنا خارج من قاعة السينما، بعدما انخرطت في التصفيق مع الحضور، مع نزول تتر النهاية، قلتُ في نفسي إن هذا الفيلم هو ضربة قوية \”\”للبهظ بيه\”، وكل من يسيرون على دربه!
وقفت أمام دار السينما، في حيرة من أمري، أتأمل لوحة الإعلانات الضخمة التي تحمل \”أفيش\” فيلم \”ولاد رزق\”، يتصدره أبطال الفيلم، وفي مقدمتهم \”أحمد عز\”.. لمحتُ اسم \”طارق العريان\” مخرجا للفيلم، والموسيقى التصويرية لـ \”هشام نزيه\”، وكان هذا إيذانا لي كي أذهب مباشرة تجاه شباك التذاكر، وأطلب تذاكر لفيلم \”ولاد رزق\”، لي ولأصدقائي، عالما أنني لن أخسر وقتي أو ثمن التذاكر؛ فطارق العريان هو السينمائي القدير، صانع فيلم \”تيتو\”، و\”هشام نزيه\” هو الموسيقي الساحر، صاحب موسيقى مسلسل \”السبع وصايا\”، التي اعتبرها العديدون عملا موسيقيا مستقلا بذاته عن المسلسل؛ من فرط جمال المحتوى الموسيقي وتفرُّده.
قرابة الساعتين، هي مدة الفيلم، استمتعت، شاهدت سينما حقيقية، بذل فيها صانعوها مجهودا لصناعة فيلم جيد، فيلم جيد يستحق أن يبقى ويُحفَظ في مكتبة السينما، دون أن يكون هدفهم الوحيد هو أن يحوزوا ثمن التذكرة فقط، وهذا عبر سيناريو شديد التماسك، كتبه \”صلاح الجهيني\” بحرفية عالية؛ لينسج ويسرد من خلاله الأحداث والحبكة في تتابع سلس، بمنتهى الهدوء، وجاء \”طارق العريان\” بقدراته الإخراجية الفريدة، وزواياه المميزة، وجودة الصورة التي هي سلاحه الإخراجي الأول؛ فهو قادر على صناعة صورة خاصة به، تعرفه منها دون أن ترى اسمه على تتر الفيلم، ودون أن يقع في فخ الافتعال أو صناعة الضجيج الحركي من لا شيء، وهو الخطأ الذي دأب على تكراره مُخرجي أفلام الأكشن في مصر.. تجنَّب \”العريان\” أيضا الإفراط في استخدام الموسيقى الصاخبة، ليأتي دور \”هشام نزيه\” قرب نهاية الفيلم فقط، ليُكمل بموسيقاه المميزة تتابع الحبكة، في تناغم مناسب جدًا للأحداث.
مفاجأة الفيلم السعيدة الكبرى بالنسبة لي كانت هي مولد ممثل متمكن اسمه \”أحمد الفيشاوي\”، وهو من استهلك نفسه كثيرا دون طائل، خلال السنوات السابقة، عبر العديد من الأدوار شديدة العادية، لم تضف له ولم يضف لها الكثير.. \”الفيشاوي\” هنا هو محور الفيلم، هو الراوي الخفي، الذي يحكي الأحداث دون أن يكون صوته في الخلفية؛ ليصبح هو البطل الحقيقي للفيلم، وقد ساعده على هذا طبيعة الشخصية التي لعبها، بعد أن ذاكر تفاصيلها جيدا؛ ليخرج أدائه لشخصية الشاب الضعيف، ابن المنطقة الشعبية الذي يعمل خادما للبلطجية، مقنعا للغاية، ثريا بالتفاصيل التي تدخل لذهن المشاهد دون مجهود.. خرجتُ من القاعة مغرما تماما بالشخصية التي لعبها الفيشاوي، بعد أن جعلها حيّة بأدائه الصادق المثابر، ثلاثية الأبعاد، لا صورة مُسطَّحة على الشاشة البيضاء الضخمة.. لقد شاهدت كل هذه التفاصيل، في الواقع، في أمثال هذه الشخصية بالفعل! طريقة نطق الكلام، طريقة الاعتذار، حركة الشفاه العصبية، التوقير المبالغ فيه لأي إنسان يحادثه، وكأنه إحساس عارم بالدونية يسيطر عليه، ولا يستطيع التخلص منه مهما حاول.
استطاع \”طارق العريان\” أن يخلق من حدوتة شبه عادية، لأربع أشقاء يسكنون في حي شعبي، يحترفون الإجرام، ويتورطون في عالم تجارة المخدرات، سحرا كاملا، وذلك بعد ان استخدم الممثلين الذين عملوا معه بطاقاتهم القصوى.. استطاع أن يخرج بـ \”عمرو يوسف\” من حدود الفتى الوسيم ذي العيون الملونة الذي يعجب الفتيات؛ ليثبت أن لديه قدرات تمثيلية جيدة، يجب أن يعمل على تطويرها واستثمارها بشكل جيد.. كذلك قدم \”كريم قاسم\” دوره بشكل جيد، في حدود المساحة التي أُتيحت للشخصية التي لعبها من خلال السيناريو، بينما استمر \”أحمد داود\” في تقديم أداء متميز، مستكملا المسيرة التي بدأها من خلال بطولة مسلسل \”سجن النسا\” خلال رمضان قبل الماضي؛ ليُبشر الجمهور المصري بممثل متمكن، يجيد اختيار أدواره، دون أن يصيبه داء الاستعجال المعتاد.. أمّا فاكهة العمل، من حيث الأداء الفردي؛ فكان هو حضور \”سيد رجب\” المميز كعادته؛ فلا غرابة في الأمر، فالرجل الذي استطاع أن يخطف العيون، بظهوره القصير خلال عدة مشاهد في \”إبراهيم الأبيض\” منذ عدة سنوات، بعضها أداها صامتا يحدق في خصمه بنظرته إياها فقط، تلك النظرة القادرة على خطف الجميع.. لا يمكن لمشاهد \”ولاد رزق\” أن ينسى المشهد الذي يحكي فيه \”سيد رجب\” مشهد المعركة بين العقرب والعنكبوت، وكيف أن العنكبوت هو من ينتصر في النهاية، رغم ضعفه البادي، بعد ان ينسج الفخ، في صبر، للعقرب المغرور.
أحمد عز، بطل الفيلم الأكبر حجما على الأفيش، هو الأقل حضورا بين طاقم الممثلين، لكنه كالعادة يُعوِّض قدراته التمثيلية العادية بحسن اختيار مواضيع أفلامه، والفريق الذي يعمل معه، والذي جاء فريقا مميزا بحق، حتى \”محمد لطفي\” الذي ظهر كضيف شرف، في مشهد محوري في سياق الأحداث، قدَّم واحدا من أكثر أدواره صدقا وحضورا، رغم أن ظهوره على الشاشة لم يستمر لأكثر من دقائق.
\”ولاد رزق\” ليس فيلما متكاملا، وهذا طبيعي جدا، هناك بعض التقليدية في الأحداث، خصوصا في منتصف الفيلم، وهناك بعض الجرأة في الألفاظ والإيحاءات الجنسية قد يجدها البعض لا لزوم لها، لكن هذا لا ينفي أنه جاء كضربة قوية في وجه كل من يبرر ويسوِّق لصناعة السينما الرديئة، على طريقة \”البهظ بيه\” في فيلم \”الكيف\” وهو يبرر لما يبيعه للناس من بضاعة فاسدة؛ بأنها هي ما تجلب الربح وإعجاب الجمهور.. حصد الفيلم الإيرادات الأعلى خلال موسم \”عيد الفطر\”؛ ليثبت لمن يسلكون سُبل الاستسهال والابتذال، أن صناعة فيلم جيد، بمعايير تجارية جيدة، يحترم عقل المشاهد، يُمتِع دون تعقيد أو ابتذال، ليس أمرا مستحيلا.. فقط هناك من يستسهلون ترويج الرداءة!