(1)
سرى الخبر في طرقات المدرسة، ينتقل من فصل لآخر.. وخلال نصف ساعة، أصبحت الإشاعة في مقام الحقيقة المؤكدة، وصار الهمس الخفيض ضجيجا، يدركه الأصم.
عقب انتهاء الحصة الثانية، في ذلك اليوم، مال علي أحد زملائي في الفصل، وأخبرني بما كنا نتوقعه جميعا ونترقب حدوثه: بعض الطلبة شاهدوا موكبا ضخما، في مقدمته ناظر المدرسة، و\”الأستاذ إبراهيم\”، المعروف بعنفه وقدرته على تأديب الطلبة الخارجين عن النظام العام للمدرسة، وبصحبتهم عدة معلمين من المعروفين بقدرتهم على ردع الطلاب المشاغبين.
كان يمكن لكل هذا أن يكون طبيعيًا للغاية، لا يستدعي الاهتمام حتى؛ فالشغب والمشاكل معتادة في مدرسة حكومية إعدادية للذكور، ومشهد لجنة التأديب/ العقاب المدرسية تلك ليس بالغريب علينا.
ما جعل المشهد لافتا لكل هذا الاهتمام هو رؤية \”ميس سلوى\” وهي تخرج من الفصل، تبكي، في حالة ذعر واضحة للعيان، فكان لزاما علينا أن ندرك أن ما كان الجميع يخشاه قد وقع بالفعل، وأصبح على الجميع أن يواجهوا هذا الموقف الصعب: لقد تحرش أحد الطلاب بالأستاذة سلوى.
من أين نبدأ؟
يصعب تتبع بداية مثل هذه الحكايات، لكن، وهنا تحديدا، يمكننا الإمساك بذلك الخيط، الذي يقودنا لتلك اللحظة التي يتم الفصل فيها بين الذكور والإناث، مع بداية المرحلة الإعدادية.. عندها، تتحول زميلة المدرسة الإبتدائية، تلك البنت اللطيفة ذات الغمازتين والضفيرة، التي كنت تلهو معها في فناء المدرسة في أوقات الفسحة والفراغ المدرسي، إلى كائن بعيد، بعيد جدا في الواقع، مجهول، يكتنفه الغموض، وسلوك شائكة من المحاذير، والأنواع المختلفة من التنكيل والعقاب التي تنتظرك، إذا ما تجرأت ودخلت إلى ذلك العالم المجهول، بأي طريقة كانت.
وككل شيء غامض، تجد نفسك عند التعاطي معه أمام اختيارين تفرضهما الظروف: إما أن تتعامل مع هذا المجهول الغامض بكراهية شديدة تتبعها رغبة كبيرة في الأذى وفرض القوة.. وإما أن تتعامل معه من منطلق آخر أساسه هوس كامل، وشغفٌ مجنون؛ تصبح عندها أسيرا لحمى الغربة في استكشاف المجهول؛ لتشبع نهم المعرفة الضاغط على عقلك وروحك.
(2)
لو وقف أحدهم بكاميرا؛ ترصد لحظة دخول \”أبلة سلوى\” إلى فناء مدرستنا، لبدا المشهد للناظر وكأنها مظاهرة طلابية صغيرة اجتاحت فناء مدرستنا متوسط المساحة.
لسوء حظها، جاءت الأستاذة سلوى إلى مدرستنا في وقت \”الفُسحة\”، وهو وقت الراحة الرئيسي بالنسبة للطلاب، حيث الجميع خارج الفصول، يصرخون ويطاردون بعضهم بعضا، يأكلون بشراهة تناسب سن المراهقة التي دخلها أغلبهم للتو، ولا مانع من بعض المعارك التي تنشأ هنا وهناك.
دخلت من الباب، فتاة سمراء، ذات وجه صبوح وشعر منسدل على كتفيها، تبدو في العشرينيات من عمرها، بملامح طفولية تزينها ابتسامة طفلة لم تتجاوز الصف الأول الإعدادي بعد، بمجرد أن خطت خطواتها الأولى داخل المدرسة، بدأ الطلاب في التجمهر حولها، والصراخ.
حالة هيستيرية من الصراخ، وكأنهم يشاهدون كائنا فضائيا عجيبا في فناء مدرستهم.. والحقيقة أن هذا التشبيه ليس بعيدا عن الحقيقة بأي شكل؛ فظهور فتاة عشرينية جميلة في فناء مدرسة إعدادية للذكور حدثٌ يفوق في غرابته ظهور كائن مريخي في نفس المكان، لو كان ذلك ممكن التحقق.
وصلت \”أبلة سلوى\” إلى مكتب الناظر، بسلام، تحت حراسة مشددة، تتألف من عدة معلمين، طوقوها أثناء سيرها بين زحام الطلاب؛ كأنهم حرس خاص؛ ليصنعوا حولها سياجا آمنا، تحت تهديد العصي التي أخذوا يطوحون بها في الهواء، في كل اتجاه؛ ليبعدوا الطلاب الذكور، الذين أصابتهم الهيستيريا بشكل كامل؛ بسبب وجود فتاة جميلة في مدرستهم.
لم يكن كل هذا سوى البداية فقط.
أمك لم تتغير.. فماذا حدث؟
وأنت تجتاز عتبات المراهقة، تكتشف أن أمك لم تتغير، لكن قواعد التعامل معها تغيرت. ليست أمك فقط، بل أختك، وعمتك، وخالتك، وكل أنثى تنتمي لمحيطك العائلي.
لم يعد بإمكانك أن تحتضن أمك، إلا في المناسبات الخاصة التي تستدعي ذلك. يراقب الجميع هذا الشارب الخفيف المتنامي فوق شفتك العليا، بريبة، كأنه تهمة تخصك وحدك، وعليك أن تتحمل تبعاتها.
(3)
كانت \”سلوى\” معلمة للرسم، أنهت دراستها الجامعية منذ ثلاث سنوات تقريبًا؛ لتبعث بها وزارة التربية والتعليم إلى مدرستنا، دون أن يدركوا تقريبًا المجازفة التي ارتكبوها.
منذ يومها الأول في المدرسة، كانت مصدرا للمشاكل.. كل فصل تدخله يحدث به مشكلة أو شغب من نوع ما. هنالك دائما محاولات لمضايقتها.. مثلا: أحدهم سجل رقمه على هاتفها، في اللحظات القليلة التي تركته خلالها أمامه موضوعا على الديسك.. بينما حاول الآخر أن يرتطم بصدرها، بعد أن دفعه زميله بعنف في اتجاهها، كأنه لا يتعمد حدوث ذلك.
تحاول بذكائها وخفة ظلها أن تستوعب الموقف، وتفشل في ذلك في كل مرة؛ لتنتهي في كل مرة إلى قرار استدعاء الناظر، والاستنجاد به؛ لينقذها من جحيم الطلاب المراهقين.
كانت الكارثة الكبرى على وشك الحدوث، تدق الأبواب بدأب شديد، وتتحين الفرصة المناسبة للانقضاض.
لننتقم مما نجهله:
الممنوع مرغوب، ومحبوب. محبوب أكثر من اللازم في الواقع! حب يصل إلى درجة الهوس؛ ليصير عندها للمحبة وجه آخر، على نقيضه تماما، باطنه الكراهية التي تصل حد المقت، وظاهره العنف، الذي يغلفه رغبة ملحة في الانتقام وفرض السيطرة بالقوة.
عقب انتهاء اليوم الدراسي لطلاب مدارس الذكور الإعدادية والثانوية، في مصر، ينطلق أغلبهم في أسراب، لها مهمات محددة محببة لأنفسهم بشدة: معاكسة الفتيات، ومطاردتهم في بعض الأحيان، وتعقب بعضهن، ومحاولة لمس أكبر مساحات من أجسادهن، بالقدر الذي تتيحه الظروف.. أفعال مركبة، دوافعها شديدة التعقيد؛ فهي مزيج من الرغبة في استكشاف المجهول، والاستمتاع به. وعند الفشل في ذلك، يلجأ المستكشفون إلى إيذاء هذا المجهول بكل وسيلة ممكنة؛ ليصبح عندها ذلك متعة في حد ذاته.
عندما كنا في مرحلة المراهقة، المرحلة الإعدادية تحديدا، كنت أرى زملائي وهم ينسجون حكايات وهمية، وتفاصيل شديدة التعقيد، كلها مختلقة في واقع الأمر؛ في سعيهم لملأ فراغاتهم المعرفية بذلك العالم البعيد: الإناث. سمعت الكثير من الأساطير المضحكة عن الإناث، وطبيعتهن الجسمانية والنفسية، التي لو سردتها هنا؛ لاتهمني معظم القراء بالعمل على نشر الابتذال والرذيلة.. لكن ماذا نفعل عند التعامل مع واقع ضحل، شديد الابتذال؟
(4)
امتدت يد أحد الطلاب إلى صدر الأستاذة سلوى، بغتة، قبل أن يبادر آخر بمحاولة خلع ملابسها عنها، بعد أن قام اثنان بشل حركتها بتثبيتها في الحائط، لكن الطلاب المتحرشين لم يستطيعوا كتم صراخ الأستاذة سلوى، التي انطلق صوتها كسرينة إنذار، يدوي في أرجاء مدرستنا؛ ليعلن أن ما كان الناظر يخشاه قد وقع منذ زمن، بعد أن خرج مارد الشهوة الطلابية عن السيطرة، ولم يعد المراهقون يملكون من الصبر ما يمكنهم من كبح جماح أنفسهم؛ خوفا من العقاب.
استطاعت الأستاذة سلوى أن تحرر نفسها، قبل أن يتطور الأمر لأكثر من تحرش جسدي أولي، أراد مرتبكوه أن يكون أكثر من ذلك، لولا أن الظروف لم تسمح لهم بذلك.. وصل الناظر، بصحبة مجموعة مدرسين، جذبهم صوت الصرخ؛ ليهدئوا من روع الأستاذة المذعورة.
بعد وصلة ضرب مبرح ذاقه طلاب الفصل إياه كلهم، دون استثناء، من شارك ومن لم يشارك في ارتكاب الواقعة، قرر الناظر اعتبار جميع حصص الأستاذة سلوى \”احتياطية\”، كأنها في حالة غياب مستمر في كل الأيام.
وبعد أسبوعين استجابت الوزارة لاستغاثات الناظر، وقررت نقل الأستاذة سلوى لمدرسة إعدادية للبنات.. وظن الجميع حينها أن المشكلة قد انتهت، لكن كالعادة لم يكن هذا ما حدث. لقد وضع أحدهم التراب أسفل السجادة، كعادتنا الأثيرة، ظنا منه أن في هذا علاجا للأمور.
\”يا توفرولهم الكُلَّة!\”
على المجتمع أن يحسم أمره: إما عزلٌ تام بين الطرفين، أو عكس ذلك. لكن هذا المزيج المشوه بين الاثنين لا ينتج عنه سوى المزيد من التشوه والانحرافات.. لا تطلب من الفتى الذي يقضي مرحلة المراهقة بالكامل في انعزال تام عن عالم الإناث، أن يكون طبيعيا في تعاملاته مع الفتيات عند دخوله الجامعة، واختلاطه بهن في وسط منفتح إلى حد كبير. ولا تطالب نفس الفتى، عندما يصير رجلا مكتمل الرجولة، أن يكون زوجا سويا، يطبق المودة والرحمة كما يحث الدين.. لقد تم تشويه الوعي، وإرباك العقل بقدر كاف، يحول دون سير الأمور بطبيعية يأملها البعض.. وعندها تصبح امنياتنا محدودة للغاية، كسقف طموحنا جميعا في الفترة الأخيرة: إما انفتاح تام، أو انغلاق تام.. أما هذا النموذج التلفيقي فلا يصلح سوى لإنتاج المزيد من البؤس.. وكما قال \”اللمبي\”: يا توفرولهم البيوت، يا توفرولهم الكُلَّة!