أحمد مدحت يكتب: هن يبعن الهوى.. فمن يشتريه؟

(1)

كنا بعد الفجر بقليل، حين تختلط ظلمة الليل بشحوب النهار الزاحف بخجل.. وقفتُ مستندا إلى مقدمة السيارة، بينما صديقي يقف بالقرب مني، يلتهم السيجارة التهاما من شدة الغضب، بينما الميكانيكي يجلس على كرسي وضعه على باب الورشة.. بدا أننا جميعا كمن ينتظرون هنا منذ بداية الخليقة.

تعطّلت سيارة صديقي، ونحن في رحلة العودة بعد سهرة حافلة؛ فبحثنا حتى أهدتنا الصدفة هذا الميكانيكي الذي يحب السهر، في هذه المنطقة الشعبية، قبل أن تلفظ السيارة أنفاسها الأخيرة، وتكف عن التحرك.

وبينما نحن في انتظار الصبي الصغير، الذي أرسله \”المَعلم\” صاحب الورشة؛ لإحضار قطعة غيار معينة من مخزن على بعد شارعين من الورشة، رأيناها تتقدم نحونا.. تسير ببطء، بخطوات ثابتة، مرتدية عباءة سوداء واسعة، وتحكم لف الطرحة حول رأسها، وفي يدها اليمنى كيس بلاستيكي كبير الحجم.. مرت بجوارنا، وألقت السلام بصوت واضح على \”المَعلم\”، الذي بدا أنه يعرفها جيدا، قبل أن تدلف إلى داخل بيت قريب، يبعد عن الورشة مسافة أمتار قليلة.

في مرورها السريع بجواري، لمحتُ الجانب الأيمن من وجهها.. كانت عينها اليمنى متورمة بشكل واضح.. كدمة زرقاء ضخمة، تحيط بالعين، كأنها جزء أصيل من الوجه.

التقت عينايّ بعينيّ صديقي؛ ففهمنا سويا أن ما رأيناه أثار فضولنا معا.. ناول صديقي المعلم سيجارة، وكان قد نال رضاه الكامل بعد أن أهداه شريطا من الفياجرا قبل ربع ساعة، وسأله بشكل عارض: الست دي شكلها غريب أوي.. كأنها مضروبة في وشها.. وراجعة وش الصبح كده! شكل حكايتها حكاية.

فرد المعلم بحماس، وهو ينفخ دخان السيجارة \”الأجنبية\” مستمتعا: لا حكاية ولا حاجة.. دي بت غلبانة اسمها \”….\”، بتجري ورا أكل عيشها.

ثم صمت هنيهة، وأكمل بصوت خفيض، مُحمَّل بالتعاطف: بيقولوا إنها شغّالة في البَطّال.. وأمها العجوزة طبعا ماتعرفش حاجة.. ربنا يستر على ولايانا.. ملهومش راجل يحميهم ولا ياخد باله منهم.

قبل أن يختم حديثه، وهوينهض من مكانه للعمل بعد أن عاد الصبي أخيرا، قال وهو يبصق السيجارة المنتهية: غيروا السيرة دي بقى.. بت نجسة!

وتناسى \”المَعلِّم\” تعاطفه تماما في ثوان!

(2)

مازلتُ أتذكر هذه الحلقة جيدا.

كنا في أعقاب الثورة بشهور، وحينها، كانت استضافة شيوخ السلفية هي موضة الفضائيات. بدا على الشيخ السلفي الذي استضافوه الغضب الحقيقي من \”نجيب محفوظ\” وما كتبه.

لم يكن أشد ما يغضبه هي رواية \”أولاد حارتنا\”، كما تجري العادة في الأوساط السلفية، بل شنَّ هجوما شديدا على محفوظ الذي قدم \”العاهرة\”، خلال رواياته، بشكل إنساني؛ يدفع القارئ للتعاطف مع من يعملن في هذه المهنة الرخيصة.

لم يهتم الشيخ السلفي بالنسق المجتمعي والسياسي الذي طرحه نجيب محفوظ، كبيئة تفرز العاملات في مهنة كالدعارة.. كل ما اهتم به أن \”نجيب محفوظ\” قدم عاملات الجنس كبشر.

في رأي الشيخ السلفي، وفي رأي الكثيرين في مصر في واقع الأمر، عاملات الجنس لا يجب الحديث عنهن بصفتهن بشر.

في نظر الغالبية الساحقة من المجتمع المصري: هن عاهرات، لا أكثر، و\”أنسنة\” الحديث عنهن، بأي شكل، هو تحريض علني على الفجور.

(3)

ما أريده هو العدل، لا التعاطف.

تعمل الصحف، والقنوات الفضائية، ووسائل الإعلام المختلفة على تقديم قضية تجارة الجنس في مصر، بأكثر الطرق ابتذالا، وجذبا للجمهور.. يخلقون من الحديث عن من يعملن في تجارة الجنس حكايات شيقة، مثيرة، هنَّ المتهمات فيها دائما، دون أي محاولة لتناول المناخ المجتمعي والظروف السياسية والاقتصادية التي تدفعهن للكسب من بيع الجسد.

هناك استثناءات بالطبع، وأوضح هذه الاستثناءات هو الموضوع الذي نُشر على موقع \”مدى مصر\”، في 5 نوفمبر 2014، تحت عنوان: \”عاملات الجنس في مصر: نبيع الهوى ونشتري قهرا\”.. عرض الموضوع عدة وجهات نظر، لفتيات يعملن في تجارة الجنس، متباينات من حيث الظروف والدوافع، بعد أن تم تزييف أسمائهن عند النشر بالطبع.

عندما أرسلتُ لينك الموضوع لأحد معارفي، رد عليَ بمنتهى الثقة: ده موضوع متلفق!

بعد أن استفسرت منه عن الكيفية التي تيقن عبرها من تلفيق الموضوع، جاءني رده بأنه تأكد من هذا من خلال حديث إحدى النساء، والتي قالت أنها متزوجة، ولديها أسرة مستقرة، وتعمل في الدعارة لتوفير نفقات الدروس الخصوصية لأبنائها، وعندما توفر المال اللازم لذلك، تتوقف عن العمل حتى مجئ الشهر التالي.

رأى صديقنا هذا أن ما حكته تلك السيدة غير واقعي، ولا يمكن أن يكون حقيقيا.. بعض البشر يلجأون للتكذيب؛ هربا من قسوة الواقع.

(4)

الواقع يقول إن تجارة الجنس في مصر أكثر عمقا وخطورة، من هذا الشكل النمطي شديد السطحية، والذي يصمم المعظم على تناول القضية من خلاله.

الفتاة التي تعمل في تجارة الجنس ليست بالضرورة على هذه الصورة الذهنية النمطية، التي عملت السينما على تثبيتها في أذهان المشاهدين، على مر السنين.. قد تجلس بجوارك في الميكروباص فتاة عادية تماما، لا ترتدي ملابس مكشوفة، ولا تضع مكياجا صارخا، ولا تلوك لبانة بطريقة توحي بالرقاعة.. قد تجدها عادية تماما، والحقيقة أنها إحدى اللائي يبعن أجسادهن لمن يقدر على الدفع، وقد فرغت في تلك اللحظة من مشوار عمل لتوِّها.

من تعمل في الدعارة لا تقف على باب منزلها تغازل الرجال، وتطلب وصلهم بألفاظ فجة.. للأسف، الواقع أكثر تعقيدا.. ليته كان كذلك!

الواقع يقول، وهو الذي يهرب منه الجميع، إن الضغوط الاقتصادية تدفع آلاف الفتيات، ولن أقول الملايين – حتى لا أُتهم بالمبالغة- للتغاضي عن التحرش الجنسي، بمختلف درجاته، من بعض أصحاب الأعمال الخاصة، الذين يستغلون الفتيات اللائي يعملن لديهم بشكل جنسي، يتفاوت.

نعم.. نحن نعيش في واقع قد ترضى فيه الفتاة بتحرشات مديرها؛ حتى تحافظ على راتبها، والذي لا يتجاوز عدة مئات من الجنيهات في بعض الأحوال، في بلد تعول فيه المرأة المصرية 35% من الأسر، دون معين في معظم الأحوال.

في بلد اعتاد أهله لوم الجاني، ما دام ضعيفا، أما إن كان قويا؛ فإن آلة اختلاق المبررات تبدأ في العمل بشكل تلقائي، علينا أن ننتبه جيدا للكيفية التي يتم من خلالها مناقشة قضية شديدة الخطورة والتعقيد مثل تجارة الجنس في مصر.. وأن نبدأ في طرح عدة أسئلة بشجاعة: من يقف وراء إمبراطورية تجارة الجنس في مصر؟ من يحميهم؟ ومن هم الجناة الحقيقيون؟ هل هم حقا أولئك الفتيات اللائي يظهرن في صفحات الحوادث في الصحف، وعلى أعينهن تشويش؛ لتشويه ملامحهن؟هناك أطراف أخرى تستحق العقاب، والتواطؤ هو عنوان المشهد.

والسؤال الذي يجب أن نواجه به أنفسنا: هن يبعن الهوى.. فمن يشتريه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top