(1)
في المرة الأخيرة، بعد أن استوقفتُ لها الميكروباص؛ لتستقله لمنزلها، وأنا أضغط على كفها الرقيق في يدي، أصافحها في الوداع، سألتني بسرعة، قبل أن تدخل إلى الميكروباص المنتظر: أنت عاوز تقولي حاجة ومخبيها؟
أشرتُ برأسي يمينا ويسارا بسرعة، كأني أنفي عني تهمة لا صلة لي بها.
كنت أكذب.. نعم، هذه هي الحقيقة.. كنت أريد أن أخبرها أنني أخشى أن أموت قبل أتزوجها، وأن هذا الكابوس بالذات يطاردني بإلحاح في الفترة الأخيرة: أن أموت وحيدا، في فراش بارد، دون حضورها، دون أن أنعم بدفء وجودها في اللحظات الأخيرة لي على الأرض.
(2)
في دمياط، البلد الذي نشأ فيه والداي، طفلا لم أتجاوز الثامنة من عمري وقفتُ مذهولا أمام تل المراتب العالي على السرير، في غرفة قريب لنا.. كنا نحضر زفاف إحدى قريباتنا، ابنة صاحب البيت الذي كنا فيه لحظتها.. أخذتُ أعدُّ المراتب؛ فوجدتها سبع مراتب بالتمام والكمال.
خرجتُ مسرعا بفعل الدهشة، وسألت أمي، حيث وقفتْ في الساحة الخارجية للبيت: 7 مراتب ليه يا ماما؟ هيعملوا بيهم إيه؟ هيناموا عليهم كلهم؟
ضحكتْ في مواجهة سيل أسئلتي الفضولية، وقالت بكلمات مقتضبة مختلطة بالضحك: العُرْف هنا كده يا أحمد.. لازم يعملوا 7 مراتب.
لم أكن أعلم أن جهاز العروسين، في مصر، لا علاقة له مطلقا بما يحتاجاه فعليا في حياتهما المستقبلية.
تخيلتُ العروسان يستخدمان سُلما خشبيا للصعود إلى أعلى السرير، وضحكتُ بشدة.. الطفل الذي كنته حينها، لم يكن يدرك أن للأمر جانبا قاتما، غير مضحك على الإطلاق.
(3)
كان قد أخبرني قبل ذلك أنها إذا تركته، سوف يموت.. أقسم لي مرارا إنه لن يحتمل الحياة في غيابها.. ستزوي روحه؛ ليذبل كوردة منسية في الظل.
قابلته في المقهى يوم زفافها على رجل آخر غيره.. كان قد مرَّ على فسخ خطبتهما ما يزيد على العام.. منذ عام رفضت أمها الشقة التي جلبها لبنتها، رأت أنها لا تليق بمستواهم.. انفعل على أمها – يومها- فردت على إنفعاله بما هو أشد منه، وأقسمت أنه لن يتزوج من ابنتها، ولو على جثتها. وبعد حرب طالت، برَّت بقسمها، ونجحت في تزويجها من رجل آخر؛ ليدهس الواقع ورغبة الأم قصة الحب التي دامت بين صديقي ومن كانت حبيبته لأكثر من ست سنوات.
صديقي أيضا برَّ بقسمه القديم لي، بأنه سيموت إذا تركته.. أخذت أراقب عينيه، وقد جلس قبالتي في المقهى يحتسي الشاي، صامتا.. بحثت في مقلتيه عن أي أثر للحياة؛ فلم أجد.. عندها، أدركتُ أنني أطالع رجلا ميتا، يحتسي الشاي ويتحرك، دون روح، دون أدنى رغبة، دون حياة.
ماتتْ تلك اللمعة في عينيه إلى الأبد.
(4)
في المناطق الشعبية، الأكثر فقرا، يبدو الناس أكثر تصالحا مع أنفسهم في أمر جهاز العروسين هذا؛ حيث يبدو الأمر تنافسيا للغاية فيما بينهم، بصورة واضحة، دون إنكار الطبقة الوسطى/ مجتمع الموظفين للصبغة التنافسية تلك في زيجاتهم، ومحاولة نفيها تحت ستار العادات وما يجب أن يكون.. في المناطق الشعبية، هناك زفة خاصة بالأثاث وجهاز العروسين بالكامل، على العربات النقل والنصف نقل، تجوب شوارع المنطقة، حتى تصل إلى الشاعر الذي ستسقر فيه العروس في أحضان زوجها، وهذا بعد أن يكون العرض قد تمَّ، وتفاخَّر الأهل أمام الجيران.. العدو والحبيب منهم.
(5)
هل يعلم العالم أن هذه الفتاة التي تخطت الثلاثين من عمرها، ذابلة، بوجه لا يعرف التبسُّم سوى في المناسبات، قد فسخت خطبتها أربع مرات؛ لأن والديها مصممان على أن تسكن في شقة قريبة من شقتهما، وعلى العريس أن يأتي بشقة مناسبة لذلك، حتى لو كانت الشقة المناسبة تلك لا يقل ثمنها عن المليون جنيه؟
هل يعلم العالم هذا القدر من العبث الذي يسحقنا في هذه البقعة منه؟!
(6)
كلما حضرتُ واحدة من جلسات الاتفاق إياها التي تسبق التحضير لإحدى الزيجات، أحسستُ أنني بصدد اتفاق لشراء الفتاة التي يرغب الرجل في الزواج منها.. نعم، يبذل الجميع قصارى جهده لتجميل الصورة، لكن الواقع يفرض نفسه.
تريد شراء ابنتنا؛ لتكون لكَ زوجة، تعاشرها وتخدمك وتلد لك أطفالا وتربيهم؟ لابد أن تدفع! كل شيء بثمنه.. طبعا لا تحدثنا الآن عن الحب وهذه الأشياء الساذجة! دع هذه الأمور الآن، ولنتكلم في الجد.. معاك تدفع كام؟
هكذا تسير الأمور.. صفقة يسعى كل طرف فيها للخروج بأكبر مكاسب وأقل خسائر ممكنة.. عملية تجارية بحتة، خالية من العواطف الإنسانية.. هذا هو الواقع الغالب، والباقي استثناءات تؤكد القاعدة والواقع المُرَّ.
وفي ظل هذا الواقع المُرّ، تجد نفسك مضطرا لتذكير الناس بأن المهر مرتفع القيمة لا يجلب السعادة للزوجة في بيتها بعد ذلك، وأن هذا السرير الفخم لا يعني أن من ينام عليه سيكون مرتاح البال، يخلو نومه من الكوابيس، وتخلو حياته من النكد، وأن هذا \”النيش\” الضخم، الذي امتل عن آخره بأكواب وأطباق مزخرفة لن يستعملها أحد، لا يعني بالضرورة أن بيت الزوجية الذي سيتواجد فيه سيكون متماسكا ينعم سكانه بهدوء البال والسكينة.
لكن الحقيقة تقول إن الجميع يتناسون هذه الحقائق الأولية البسيطة، كما يتناسون كل القصص الدينية التي تحث على تيسير أمر الزواج، وتبسيط أموره، حيث يظل الإنسان يرددها طوال حياته، حتى يصبح طرفا في اتفاق زواج ما على أرض الواقع؛ فيتركها للانسحاق تحت وطأة حسابات المكسب والخسارة.
(7)
أعلم أنها صادقة حين تقول لي إنها ستنتظرني، مهما طال الأمد، حتى تتيسر ظروفي بالشكل الذي يؤهلني للزواج منها، لكن صوت أحمد زكي، لازال يطاردني وهو يتساءل بسخرية مريرة في \”ضد الحكومة\”: \”ومن امتى القلوب بتصدق؟!\”
أعلم أنها تحبني حقا، لكن ذلك لا يعني أن الكابوس إياه لم يعد يزورني.. لازلت أجدني جالسا في حفل زفافها، على رجل آخر غيري، ارتدي بذلة بيضاء، وأجاهد لكي أمنع دموعي من إفساد ملابسي؛ فالدم الذي أجده ينساب من مقلتي يُفسد اللون الأبيض.. أصحو فزعا، في كل مرة، أفكر أنه لابد من حل.. على الأقل إذا لم يتوقف الكابوس؛ فلابد ان أجد حلا لمشكلة الدم الذي يغرق ملابسي؛ لكي لا أبدو مضحكا كرجل يبكي دما في زفاف حبيبته على رجل آخر.
\”شُفت شبهك قاعدة في الكوشة
قلت هي لأ.. مش هي!
فتشتني الدمعة عن ماية
كنت أنشف من حطب محروق\”
خالد عبد القادر/ قصيدة (سيرة الأراجوز)
(8)
لم أعد معنيا بتغيير العالم بذلك الشكل الجذري الذي كنت أتمناه منذ سنوات.. أريد الآن فقط أن أجعله أفضل، بالشكل الذي لا يحرمني مما أحبه، ولا يحرمني منها هي تحديدا.. لا أعرف هل يهتم العالم حقا بي، وبمبرراتي البسيطة لهذا الطلب، حيث إنني لا أملك مسوغا متماسكا لذلك سوى أنني أحبها.. أحبها حقا.
لا أريد أن يسلبونني ضحكة عينيها، التفاتتها عندما تغضب، ونطقها الساحر لحرف \”الواو\” حين تضم شفتيها، وكل تفاصيلها البسيطة الساحرة؛ لأنني لا أملك من النقود ما يكفي لشراء قطعة أثاث معينة، يراها أهلها ضرورية لإكمال الزواج، ودليلا دامغا على أنني استحق الفوز بها.