أحمد مدحت يكتب: عمرو دياب الذي علمني كيف أكرهه

(1)

دخلتُ إلى السيارة، وجلست بجوار أخي، الذي جلس على مقعد القيادة، وعلى وجهه حزن ساخط.

حاولت أن أتجاهل العرق الذي يغمر جسدي ويبلل حاجبيَّ، وقلت له وأنا أخلع نظاراتي وأمسحها بكم القميص: مالك شكلك متضايق كده ليه؟

أجابني وهو يشير لتسجيل السيارة: ألبوم عمرو الجديد نزل، وكنت باسمعه وأنا جايلك في السكة.. زفت! زفت.. مفيش أغنية واحدة حلوة.

ضغطت على زر التشغيل في الكاسيت، وقلت له: طيب خلينا نسمع.

وبعدها بربع ساعة، بعد أن استمعتُ لثلاث أغنيات، كنتُ أنا من أغلق الكاسيت.. أغلقته وأنا أهمس: هو بيعمل في نفسه كده ليه؟

كنتُ ممتعضا جدا، والأسوأ، أنني لم أكن مندهشا من هذا المستوى في الانحدار الذي وصل إليه عمرو دياب.. فقط كنت أتمنى أن يكون للقاع نهاية.

(2)

وُلدتُ في بيت صوت عمرو دياب لا يكاد ينقطع فيه، آناء الليل وأطراف النهار.. كان أخي الأكبر مهووسا بعمرو.. نتحدث هنا عن ما كان يجري منذ 14 سنة مثلًا.

كنت صغيرا للغاية، ولكن أذنيَّ كانتا حساستين للغاية.. التقطت روحي موسيقى عمرو بسهولة، تشرَّبته حتى الثمالة.

كنتُ أحبه، و\”كان\” فعل ماض، لا يرتبط بالحاضر.. الحاضر يقول إنني لم أعد أحبه.

(3)

أحببته حقا، حتى بعدما دخلت عالم المراهقة الرحب، وخرجت من عباءة ما يحبه أخي، والتقطت أذناي موسيقى أم كلثوم ومحمد منير، وموسيقى \”الأندرجراوند\” بمختلف تنويعاتها، ظل لعمرو دياب مكانته في وجداني.

يوما ما، كنت أضبط نفسي مرددا التيمة الرئيسية للحن \”ميّال\” الشهير.. ارتبط هذا اللحن عندي بأوقات الفرحة الصادقة، الخالية من أي كدر أو ضيق.. لطالما تخيلت عمرو مبتسما وهو يغني تلك الأغنية بالذات، يبدو صوته ضاحكا تماما فيها، صوت من لحم ودم، حيّ، له معدل تنفس ونبض وهيكل عظمي وعظام يكسوها اللحم؛ وكأنه كائن حي مستقل بذاته عن صاحبه.

كان صوته حيا، يوما ما، والآن لم يعد.

(4)

رحلة طويلة قطعها، حتى الآن، هذا الشاب النحيل، ذو الشعر الخشن، الذي أتى من بلده \”بورسعيد\”، إلى القاهرة، العاصمة الضخمة، المزحمة دوما. كآلاف غيره نزل إلى المدينة الضخمة؛ بحثًا عن فرصة.. أخبروه في بلده أنه يمتلك صوتا جميلا، لكنه دون أن ينزل إلى القاهرة لا يساوي شيئا.. سيغطي الصدأ حنجرته، ويموت مجهولا، مثله مثل ملايين الموهوبين الذين لا يحظون بفرصة مناسبة.

كان الشاب \”عمرو دياب\” مثابرا بحق.. تحمَّل الفشل الذي لاقته أعماله الأولى.. جرَّب التمثيل، وفشل فيه عن جدارة، لكنه لم يتوقف عنه إلا بعد سنوات، وكأنه لم يكن يريد ترك فرصة للنجاح والانتشار دون استثمارها.

وفي صباح أحد الأيام، استيقظ المطرب الشاب عمرو دياب على تليفون من منتجه يُبشِّره بالنجاح الساحق الذي حققه ألبومه الجديد \”ميّال\”.. المبيعات صادمة للجميع، وأغنية الألبوم الرئيسية \”ميّال\” صارت هي الموضة المحببة للشباب في وقتها

حينها، بدا لذوي الفطنة أنه آن الأوان لعمرو أن ينجح، وينطلق؛ ليشغل مكانة \”المطرب الأول\”، التي ظلَّت فارغة منذ رحيل عبد الحليم حافظ، حتى جاء عمرو ليفرض سيطرته.

رحلة طويلة حقا، تجاوزت الآن الثلاثين عاما، هي عمر رحلة عمرو دياب الفنية مع الموسيقى، تحوَّل خلالها من الشاب النحيل، المرتبك في معظم الأحيان، المتوتر غير اللبق في الأحاديث التليفزيونية، والذي كتب عنه أحد الصحفيين في ثمانينيات القرن الماضي ساخرا من ملابسه وعدم تناسق ألوانها، إلى نجم الشباك الأول الذي يطالعنا الآن، الهضبة، صاحب الجمهور العريض، والمحافظ غالبا على لقب \”الأكثر مبيعًا\” في نهاية كل موسم موسيقي.

وصل عمرو إلى القمة حقا.. صارت الملابس التي يرتديها هي موضة العام بين الشباب، واختفى ذاك الصحفي الذي سخر منه في طي النسيان. رحلة نجاح طويلة بحق، بذل بالتأكيد عمرو الكثير من التعب خلالها.. قدم الكثير من التضحيات، لكن التضحية الأكبر كانت عندما تخلى عن صوته؛ فصار مطربا بلا صوت، بلا طرب.

(5)

منذ بدايته، لم يدع عمرو أنه يقدم نوعا أصيلا من الطرب، أو أنه مطرب ذو رسالة عميقة.. كان مطربا عاديا، معظم أغانيه عاطفية، سهلة الكلمات والمعاني.. مطرب يناسبه لقب \”نجم الشباب\” تماما، لكن هناك فارق كبير بين أن تكون عاديا، مُسليا، وبين أن تكون مبتذلا.

(6)

منذ سنوات قليلة، غنى عمرو في إحدى حفلاته أغنية \”يا ريت سنك\”.. بدت الأغنية لمحبيه مختلفة للغاية، فكرة جديدة، طازجة: حبيب يطلب من حبيبته أن يزيد عمرها سنتين، سنتين بالضبط؛ ليصير سنها مناسبا، لكنه يُذكِّرها بأنه يجب ألا يتغير فيها أي شيء.. ليزيد عمرها سنتين، ولتبقى هي كما هي، في كل شيء.

وانتظر الجميع صدور الأغنية ضمن ألبوم جديد، في نسخة رسمية كاملة؛ فكانت النتيجة الكارثية: اختار عمرو للكلمات أسوأ لحن ممكن، وأسوأ توزيع موسيقي في تاريخه الفني؛ لتخرج الاغنية إلى العالم مسخا مشوها، وتاهت حدوتة الأغنية الجميلة بين الموسيقى الصاخبة السيئة.

هكذا يمكن تلخيص ما يفعله عمرو دياب منذ خمس سنوات في موسيقاه: إفساد كل شيء يحمل قدرا ما من الجمال، وتغليفه بالقبح.

(7)

لا يمكن الجزم بالضبط متى بدأ الانحدار.. أعتقد أحيانا أنه يمكن الإمساك بالخيط بدايةً من عام 2010، منذ أن أصدر عمرو ألبومه السئ جدا \”أصلها بتفرق\”.. منذ ذلك الوقت، صارت كلمات أغانيه تدور في فلك 20 مفردة لا تتغير، وكأنه اعتنق التكرار والملل مذهبا فنيا له.

تشابهت الجمل اللحنية أيضا، وصار من المستحيلات أن تُفرِّق بين أغانيه، أو تتذكر محتويات ألبوم معين من ألبوماته الجديدة، تمييزا عمن سواه.

صار الرجل آلة لإنتاج القبح.. فقد صوته كل حياة، صار صوتا معدنيا.. مجرد قطعة من البلاستيك، لا تجيد الفرح والحزن.. يغني كل الكلمات بإحساس واحد.. مجرد موظف، يقف في ستوديو التسجيل وهو يشعر بالضجر، يريد أن ينتهي من تسجيل الألبوم سريعا؛ ليخرج لفعل شيء ما يستمتع به.. ليفعل أي شيء آخر غير الغناء؛ فالأكيد أن عمرو دياب لم يعد يستمتع وهو يغني بأي شكل.

مطربٌ بلا شغف، هو مطرب بلا روح.. هو مطرب ميت.. هو عمرو دياب.

(8)

ولماذا أكره عمرو دياب؟

هناك جانب شخصي في الموضوع، لا استطيع تجاوزه أو إنكاره.. أشعر نحو عمرو الآن وكأنه صديق قديم خانني. تربيت على موسيقى هذا الرجل، ومازلت أستمتع بها حتى الآن، بأغانيه القديمة الخفيفة المرحة، حتى الحزين منها.. احب صوته الشاب المنطلق.. هذا الصوت العادي المريح، الذي يصلح كخلفية لي عندما أجلس للتفكير في شيء آخر.. صوت غير مقتحم، يترك لك مساحة للشرود، فلماذا يصمم أن يصير هذا المسخ الذي يطالعني الآن؟

وعلى الجانب الآخر – وهو الأهم – أصبح عمرو في ذهني أيقونة للاستسهال، للتسطيح، للقبح في أسوأ تجلياته.. صار نموذجا للفنان الذي ينجرف خلف السعي للنجاح.. يزحف وراء رغبات جماهيره؛ فتسحبه للقاع.. هنا يصبح الفن سلعة، وهنا يفقد الفن هويته، وحيويته، وقدرته على جعل الحياة أجمل، ويصير مسخا.

اكره عمرو دياب؛ لأنه يُذكِّرني بكل ما أكره في مصر؛ لأنه يذكرني بأن كل شيء يحمل قدرا من الجمال، في هذه البلد، ثم يتحول بفعل الظروف المختلفة إلى آلة لإنتاج القبح المبتذل.. يتحول إلى عمرو دياب جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top