أحمد مدحت يكتب: زيزو يروي أسباب فشل الثور المصرية

أن يحب \”زيزو\” الرئيس المخلوع حسني مبارك، للدرجة التي تدفعه للصراخ في مقهى مزدحم، هاتفا باسمه؛ دفاعا عنه وعن سيرته، كان أمرا مثيرا للدهشة بحق – على الأقل بالنسبة لي- وخاصة أننا كنا أيامها لازلنا نحيا في تلك الأيام الخوالي، التي تلت اندلاع حلم يناير، في شهوره الأولى، حين كان الإعلام، في جُلِّه وأغلبيته الساحقة، يتحدث عن \”ثورة يناير العظيمة\”، والجميع، بما فيهم أشد أعداء الثورة، يعيشون فترة هدنة؛ رغما عنهم تحت ضغط الأمر الواقع.. يتسامحون فيها مع حلم يناير، وكل ما يتعلق به، بل يدَّعون في معظم الأحيان أنهم من مشعليه ورواده، قبل أن تنقلب الآية ، وتدور الأيام، وتُدحَر الثورة إلى الخلف من الصورة؛ وتصبح في موقع المهزوم، ويطفو حديث المؤامرات و\”نكسة يناير\” إلى سطح الخطاب الإعلامي، كما هو الحال الغالب الآن.

كان لإخلاص \”زيزو\” للعهد المباركي، في حينها، وقعٌ ثقيل مربك على ذهني.

زيزو.. شابٌ نحيل، نصف أصلع، له مظهرٌ معتاد تماما، وصوت رفيع مرتفع النبرة، ولسان سليط يجيد استخدامه وقت اللزوم، وخفة دم ولاد البلد المعتادة، وذكاء ينساب من نظراته الحادة.

يومها، في مايو 2011، وفي يوم اشتدت فيه حرارة الشمس في كبد السماء، دخلتُ المقهى المعتاد لتجمعي مع أصدقائي، في تلك الفترة، أتصبب عرقًا، وأحاول أن أستوعب المشهد الجاري أمامي: أحد أصدقائي يقف صارخا، يدفعه صديقٌ آخر في صدره؛ محاولا تهدئته، بينما يقف زيزو على الطرف الآخر من الطاولة، يصرخ بصوت عال، على طريقة الباعة الجائلين، يسخر من صديقي وغضبه، ويهتف باسم مبارك:

\”يعيش الرئيس مبارك.. يحيا الرئيس حسني مبارك\”.

بعد أن نجحنا في فض الاشتباك، وإبعاد كل منهما عن الآخر، فهمت من الموجودين أن شلتنا كانت جالسة على طاولتها المعتادة، يتناقشون في أمور الثورة والسياسة بصوت عال؛ مما دفع زيزو للتدخُّل في سياق الحديث، ساخرا من معظم كلامهم.. تعليق تلا تعليق؛ فاشتعل الوضع؛ حتى وصل للمشهد الذي دخلت المقهى لأجده عند قدومي.. كان صديقي، الذي اشتبك مع زيزو، هو أكثرنا انفعالا، ولذلك، لم يتحمل سخرية \”زيزو\” السليطة إياها.

بعدما هدأت الأوضاع تماما، ذهبتُ إلى \”زيزو\”، الذي انزوى بصحبة صديق له على طاولة، تبعد عن طاولتنا تماما.. قلتُ له باسما: ممكن تعزمني على واحد شاي ولا إيه يا عم؟

فضحكنا، وجلستُ إليه، وتعارفنا، وفتح قلبه، وبدأ يحكي، بعد أن استفسرتُ منه باسمًا عن سبب ثورته وحماسته تلك لمبارك وحبه لعهده.

أنت ليك قريب ظابط ولا مسئول كبير ولا إيه يا عم عشان تحب مبارك كده؟ (أقولها، وأضحك)؛ فيجيبني بضحكة، ممتزجة بمرارة لا يجيد إخفائها، ويرتعش جانب فمه وهو يحكي:

يا باشا لا قريب ظابط ولا رجل أعمال.. أنا غلبان ابن غلابة.. كل الحكاية إني أخدت الدبلوم، ولقيت في رقبتي أمي و3 بنات، بعد ما أبويا مات وخلع وسابلي الشيلة.. طلعت على البحر الأحمر، وقلت ابن خالتي شغّال هناك، ورزقي على الله.. اتمرمطت.. لفيت قرى ومنتجعات البحر الأحمر شبر شبر، من الغردقة لشرم لسفاجا.. خدتها كعب داير؛ عشان أطلع 3 أو 4 آلاف جنيه كل شهر، أبعت نصهم لأمي، وأحاول أحوش اللي أقدر عليه من الباقي.. اشتغلت 20 ساعة في اليوم.. اشتغلت كل حاجة.. سوّاق، مرشد سياحي، مرمطون.. كل حاجة مفيهاش حرام ولا كسرة عين عملتها. ولما بدأت الدنيا تظبط معايا شوية، والدنيا تتسهل، قامت الثورة النيلة، والدنيا هاجت، ووقف حالنا.. ومن شهر، لقيت صاحب الشغل بتاعي بيقولي: \”رزقك على الله.. ملكش شغل عندي\”.. ولما قلتله \”ليه؟!\”، قالي: هتشتغل مرشد وسوّاق لمين؟ لأمي؟! أديك شايف الحال.. لا فيه سياح ولا شغل والفنادق بتنش.

يرتشف من كوب الشاي، ويضع الكوب على الطاولة بيننا، ويكمل كلامه، وأنا ألحظ ارتعاشة فمه التي انتقلت لأصابع يده، التي تنقر بخفة على خشب الطاولة:

وأديني بقالي شهر أهو في إسكندرية.. لا عارف ألاقي شغلانة عدلة، ولا أعمل فلوس، ولا أسكت الأبقاق المفتوحة في البيت مستنية الأكل والهدوم.. مطلوب مني أجهز 3 بنات يا باشا.. متخيل! وأنا.. أنا هتجوز امتى؟! أنا كسرت التلاتين من كام شهر.. هلاقي امتى عمر أتجوز واخلف فيه عيل ولا اتنين؟ أديني قاعد أهو.. ومش عاوزني أحب مبارك؟! على الأقل كنت لاقي آكل.

هربتُ بعينيَّ من الدموع التي طفرت في مقلتيه.. قلت كلاما كثيرا، أحاول طمئنته، حكيتُ له كثيرا عن الثورة، وأهدافها، وأنها في مصلحته.. أننا نزلنا لأجل كرامته، ولأجل أن يجد الطعام والملبس والسكن، دون إهانة.. دون أن يستغله أحد.

قبل أن أغادر بصحبة أصدقائي.. حسم \”زيزو\” الحوار ببضع كلمات قالها وأنا أحتضنه:

محدش بيكره الحياة النضيفة.. يوم ما ألاقي كلامك الحلو ده فيه حد بيشتغل إنه يبقى حقيقة، هقف معاه وأهتف له كمان.. بس لغاية لما ده يحصل، ماتلومش عليا إني بأحن لمبارك وأيامه، حتى لو كانت وسخة.

اليوم.. أجد نفسي أفكر كثيرا في \”زيزو\” وحديثي معه، في الوقت الذي يصب فيه معظم من ينتمون لحلم يناير اللعنات على \”زيزو\” وأمثاله، دون أن يفكروا، ولو للحظات: هل يستحقون حقا لعناتنا المنصبة على رؤوسهم؟

هل قدمنا لزيزو شيئا ملموسا.. كيانا محددا.. مشروعا متماسكا، يمثل الثورة بأهدافها وشعاراتها الجميلة، يمكنه أن يدعمه وقت اللزوم، أم تركناه فريسة بين خيارين أحلاهما مُرّ: \”الإخوان – العسكر\”؟

ننسى سريعا نحن، كعادة جميع البشر.. نسينا أن أمثال \”زيزو\”، من ننعتهم الآن أنهم من عبيدي البيادة، قد اندفع بعضهم إلى نجدة أبناء يناير، في نوفمبر 2011؛ لنتشارك سويا صناعة ملحمة \”محمد محمود\”.. اندفع أبناء المناطق الشعبية؛ لنجدة الثوار، بعد أن رأوا جثث الشهداء تُسحَل لتلقى في القمامة.. نزلوا دون وعي سياسي كبير بما يحدث؛ فقط لنجدة من رأوه مظلوما في حينها، وبشهادة كل من شارك في ملحمة محمد محمود، كان لأبناء المناطق الشعبية اليد الطولى في الملحمة، ولولاهم، لما استطاع الثوار الصمود في مواجهة قوات الأمن.

العلم يقول إن الثورية والعبودية لا علاقة لهما بالجينات والوراثة.. لا داعي هنا للحديث المتعجرف، والاستعلاء بالحق! لكل منّا ظروفه، التي تدفعه لانحيازات معينة، في لحظات بعينها.

إذا أراد من شاركوا في صنع حلم يناير أن يكون لحلمهم انتصارٌ، في المستقبل البعيد أو القريب؛ فلا حل أمامهم سوى التدثُّر بزيزو وأمثاله.. لم تعد الهتافات والوعود الوردية تكفيهم.. لقد انفضوا من حولنا، تحت وطأة أخطائنا المتوالية، وذهبوا لمن يعدهم بالاستقرار، حتى لو كان مغموسا بالمهانة.. أن نسبهم، ونصب اللعنات على رؤوسهم، لا يعني بالضرورة سوى المزيد من الانفضاض وأن تكتسب الثورة المزيد والمزيد من الأعداء، في الوقت الذي يجب أن يكون فيه \”زيزو\” ومن معه هم درع الثورة وسيفها.

الثورة التي تفقد دعم الجماهير، وتعاديها، تصبح عارية في مواجهة أعدائها.. ومع مرور الوقت، تفقد دلالة \”الثورة\” من الأساس.

في وصاياه الثورية لخوض المعارك، قال \”مصطفى إبراهيم\”، في قصيدته الأجمل \”المانيفستو\”:

وجّب مع السكان وأهل المنطقة.. حتى لو فاهمين غلط.. فيه ناس كتير متلخبطة.. اكسب عدد.. واكسب غطا

لكن أكثر الثوار لا يعلمون!

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top