أحمد مدحت يكتب: خطاب إلى الشهيد: لماذا لا يصدق بعضنا قصة بطولتك؟!

قاسية هي الحرب يا عبد الرحمن، وأقسى ما فيها هي ما تفعله بنفوس البشر الذين يعايشونها.. أعلم أنك لست في حاجة لكي تسمع مني هذه الجملة المُكررة؛ فلقد نلت أنت أقسى ما فيها: الموت.

أكتبُ إليك يا صديقي؛ لأنني أحتاج هذا.. أنت لم تعد في حاجة لأي أحد منّا هنا؛ في صحبة الله، لا يحتاج المرء لصحبة قوم مثلنا: يتقاتلون ويتصارعون من أجل الفوز ببرتقالة عفنة.

لن تصدني يا عزيزي الشهيد، لن تتهمني بالخيانة، إذا لم يعجبك كلامي، ولن تهددني بأنك ستبلغ عني الأجهزة الأمنية.. الشهداء لا يرتكبون تلك النقائص البشرية التافهة؛ لأن الموت يُكسِب صاحبه قدرا من التسامح، لا تسمح به طاحونة الحياة لمن فيها.

\”عبد الرحمن متولي\”.. اسم عاديٌ تماما، لا يترك رنينا مميزا في أذن المستمع، لا ينطبع في الذاكرة بسهولة.. ملامحك أيضا عادية يا صديقي: وجه مستدير، ونظارات ذات إطار، ونظرة لا تفارقها ابتسامة الأمل.. لا تستغرب أنني أناجيك كصديق لي؛ فأنت تشبه صديقا لي، تشبهه حد التطابق، كان يلازمني في المرحلة الإعدادية، قبل أن تدهسه سيارة مسرعة، وهو يجري ضاحكا في الشارع العريض القريب من باب مدرستنا القديمة.. أشعر نحوك بألفة وحنين صادق يا عبد الرحمن.

بعدما انتشر الفيديو، الذي يحكي فيه ضابط مُصاب عن بطولتك يا عبد الرحمن، وكيف أنك صمدت في مواجهة الإرهابيين، رغم إصابتك، وقتلت منهم 12 شخصا، قبل أن تصيبك رصاصة في رأسك؛ فتسقط، مقبلا إلى الله، غير مدبر.. شكك بعض أصدقائي في محتوى ما حكاه الضابط عن بطولاتك.. حزنتُ، لكنني لم أندهش.. للأسف لم أندهش.. هذا مُتوقع ومنطقي جدا.

بعدما استخدمت الدولة عساكرها في القتل والاعتقال والترويع، صار تصديق أي شيء ترويه، هو درب من دروب المستحيل.

عسكرٌ يشبهونك يا صديقي، تقنعهم قياداتهم أن قتل المتظاهرين في الشوارع هو سبيل الدفاع عن الوطن ضد أعدائه.. المصيبة أن العساكر يفعلون هذا وهم مقتنعون أنهم يخدمون وطنهم بالفعل.. فيلم \”البرئ\” يُعاد تصويره كل يوم في الشوارع والمعتقلات، \”أحمد سبع الليل\” يُبعث من قبره كل ليلة، ليعيد تمثيل ما كان يفعل: يقتل المثقف الذي يكتب ويناضل دفاعا عن حقوقه، حقوق سبع الليل، يخنقه بأصابعه، يضغط بكل ما فيه من قوة، وهو مقتنع تمام الاقتناع أنه يقتل أحد أعداء الوطن.

لم يصدقوا حكاية بطولتك يا صديقي، ليس لأنهم يكرهوك؛ بل لأنهم اعتادوا الكذب من قادتك.

ولماذا صدقتُ أنا ما رٌويَّ عن شجاعتك؟

لأنني أعرف أن المجندين البسطاء، أولئك الذين أراهم في القطارات وهم محتشدون في طريقهم لمعسكراتهم، بعد قضاء إجازة قصيرة مع الأهل، لديهم قدرة غير عادية على البذل والصمود عند المواجهة الحقيقية.

منذ أيام، وبالصدفة، شاهدت على \”يوتيوب\” مقطعا تم تصويره في سيناء، بعد انتهاء حرب أكتوبر، يقف فيه الجندي البطل \”عبد العاطي\”، الشهير بـ \”صائد الدبابات\”، وهو صاحب الرقم الأضخم في إصابة دبابات العدو، يروي لمذيع التليفزيون تفاصيل إحدى المعارك، ويقول في سياق كلامه: وفي الموقع ده قدرت أصيب خمس دبابات من الستة اللي كانوا بيتقدموا الهجوم علينا.. أصبتهم في 10 دقايق.

أصاب خمس دبابات، إصابات مباشرة، في عشر دقائق، ويقف راويا هذا وكأنه يتحدث عن فعل عادي تماما! وعلى شفتيه ابتسامة طيبة، لا تختلف كثيرا عن البسمات التي طالع بها أهله في قريتهم كاميرات التليفزيون، عندما ذهبوا للتصوير هناك.. هكذا هم الأبطال دوما يا صديقي: يرون أنفسهم عاديين تماما، ولا يدركون في أنفسهم ولاية البطولة.. أعلمُ انك لو عدت إلى الحياة الآن، ستجلس أمام الكاميرات؛ لتؤكد أنك لم تفعل أكثر من الواجب، وتبتسم بخجل بينما يمدحك أحدهم.. من يفاخرون ببطولاتهم، في الغالب، هم من الأبطال المزيفون يا صديقي.

كان أبي في سلاح الخدمات الطبية، أثناء حرب أكتوبر.. في اليوم التالي للعبور العظيم، وصل إلى المستشفى، مع من وصل من الجرحى والشهداء، جندي اسمه \”عبد الصبور\”، مصاب بشطايا مزقت منطقة البطن، بشكل احتاج معه أن يبقى في غرفة العمليات 12 ساعة، قبل أن يخرج، ويتم نقله للعناية المُركزة.. كان \”عبد الصبور\” ذا مظهر عادي تماما، جنديا صعيدي آخر، واحدا من الآلاف الذين يكسرون الآن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزَم، لكن تفاصيل حكايته تجعل منه غير اعتيادي أبدا: كان عبد الصبور من أوائل من وصلوا إلى الضفة الشرقية للقناة، وبعد أن قام برفع العلم المصري على تبة مرتفعة، أصابته شظايا طلقة مدفعية تم إطلاقها على المنطقة التي وقف فيها.. روى زملاؤه، والذين أصيبوا إصابات أخف ونُقلوا معه إلى نفس المستشفى، لأبي وطاقم المستشفى، كيف أن عبد الصبور ظل متشبثا بالراية، ورفض أن يترك موقعه، واعتبر سقوطها مرهون بموته هو، مما جعله عُرضة للإصابة بشطايا طلقة مدفعية أخرى.. أكدوا أنه لم يفقد وعيه، إلا بعد ان تاكد أن أحد الضباط تشبث بالراية بدلا منه.

يروي لي أبي أنه في اللحظات القليلة التي كان يفيق فيها من المخدر، كان يبكي بحرقة، وهو يرجوهم أن يعيدوه إلى سيناء؛ حتى إنه كاد أن يُقبِّل يد الضابط الطبيب رئيس المستشفى، وهو يرجوه أن يعيده إلى سيناء \”عشان أقتل اليهود\”، والذي جاء بنفسه للاطمئنان عليه بنفسه، بعد أن سمع عن بطولاته.

صباح يوم العاشر من أكتوبر، أخبر الطبيب الذي جاء ليطمئن عليه أنه يرى سماوات مفتوحة، تمتلئ بطيور خُضر.. ابتسم الطبيب، ظن أن العسكري المسكين يهلوِّس تحت تأثير المخدر.. بعد ساعتين مات \”عبد الصبور\”، وبكاه أبي كما لم يبك أحدا في حياته.

الملوك هم من وضعوني، أنا وأصدقائي ممن آمنوا بحلم يناير، في مواجهتك أنت وزملاؤك يا صديقي.. مكاننا الصحيح هو الزمالة في معركة واحدة، لا أن ننقسم إلى فريقين.. أنا وأنت في نظرهم مجرد أسماء تصلُّح لملاء الكشوف، لا أكثر.. لا يهم عنوان الكشف، كشف قتلى أو مصابين أو معتقلين.. لا يهم، المهم أن تمتلئ كشوفاتهم.

في فيلم \”الناصر صلاح الدين\”، وفي اجتماع قادة الجيوش الصليبية، صرخ فيهم \”ريتشارد\”، وهم يهاجمون اقتراحه للهدنة؛ لأن جيوشهم منتصرة: \”نعم انتصرنا، لكن بكم من الضحايا؟!\”

لا يوجد \”ريتشارد\” بينهم اليوم يا صديقي، كلهم \”رينو\” المغرور، الراغب في اقتحام الممر، مهما كلفه هذا من ضحايا.. المهم هو كبرياء المُلك.

لا أخاف الموت.. بعد عام من الآن، سأنهي دراستي الجامعية، وسيكون عليَّ أن أؤدي خدمتي العسكرية.. ربما أذهب إلى سيناء، ربما أخدم في ذات الكمين الذي كنت تدافع عنه، حتى نلت الشهادة. أعدك أن أثأر لكَ، أشعر أن ثأرك في رقبتي أنا وحدي.. سأثأر ممن يظنون أنهم وحدهم يمتلكون صكوك الغفران ومفاتيح الجنة، لكنني لن أقتل مدنيا لا ذنب له فيما يحدث، لن أشارك في ظلم أحد أهالي سيناء، لن أقتلع نخلة، لن أحرق منزلا.. سأقتل من يستحق القتل فقط يا صديقي.. سأقاتل دفاعا عن أمي وأبي وأهلي، لا دفاعا عن أهل السلطة.

هل يتذكر أحد الآن البطل \”عبد العاطي\” صائد الدبابات؟ هل سمع أحد بما فعله عبد الصبور؟ هل سيتذكرك الناس بعد مُضيَّ أسبوعين من الآن يا عبد الرحمن؟ للأسف لا، وأقولها متأكدا.. فقط السادة هم من يتوقف من أجلهم بث القنوات؛ حدادا على أرواحهم، وهم من تُطلق أسماؤهم على الشوارع والميادين الكبرى في البلاد، أما نحن، العاديون؛ فنصلح لملاء الكشوف.. أسماء وأرقام لا أكثر.

المجد لكَ ولزملائك يا عبد الرحمن.. المجد لكم وحدكم يا صديقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top