(1)
اعلم أن هذا المشهد سيتخذ لنفسه مكانا متميزا في ذاكرتي، للأبد.. سيتبوأ مكانته التي يستحقها، في طليعة المشاهد الكابوسية التي عاصرتها، يوما ما.
في الميكروباص جلستُ، بجوار الشباك، أنظر إلى الطريق بعين نصف شاردة، وعلى وجهي ترتسم ابتسامة وليدة تبحث لها عن منفذ، وفي داخلي أخذت احاول أن أقنع نفسي أن اليوم سيكون جيدا، إن شاء الله.. سأقابل أصدقائي، سأتمشى في الشوارع التي أعرف أن السير فيها يبهجني، سنمرح، سنتبادل الحكايات، ونتخلص من بعض أحزاننا.. كما ترى، من الممكن أن أحيا بعض الساعات الجيدة.
قبل أن أعرف أن للقدر رأيا آخر.
مع اقتراب الميكروباص من ميدان \”فيكتور عمانويل\”، بمنطقة \”سموحه\”، بعدما تجاوزنا منطقة مديرية الأمن وحواجزها الخرسانية، بدأت رائحة شديدة القذارة تتسرب لأنوفنا.. بعد التدقيق في أرضية الميدان، زال اندهاشنا، كركاب، بعدما عرفنا مصدر الرائحة الكريهة… بمنتهى البساطة، كنا نسير في بحر من مياه المجاري، التي ارتفعت حتى منتصف عجلات الميكروباص الذي أركبه.
فوضى عارمة تعم الميدان، صراخ هنا وهناك، الكل مرتبك، الكل يحلم بالهرب من هذا الجحيم.. والمشاة كانوا ذوي الوضع الأكثر سوءا، حيث شمر بعضهم ملابسه، وغاص في المياه القذرة، كي يعبر الطريق، ويصل لمكان جاف آمن.
وجدت عيناي تتجهان نحوه، رغما عني؛ لأركز عليه وحده في الزحام.. على رصيف الميدان العريض وقف، عجوز وحيدا، نحيفا للغاية، يرتدي نظارة ذات إطار سميك، تتوارى خلفهما عينان تفيضان بالفزع.. وقف عاجزا، يحمل في يديه أكياسا بلاستيكية، يبدو أنها تحمل بعض الأطعمة، يحدق في بحر المجاري الذي يحاصره من كل اتجاه حيث وقف، ويتطلع في من حوله ببطء، كأنه يستعطفهم، يستجديهم ليهبوا لمساعدته، لكنه سرعان ما يدرك أنه وحده، لا أحد يلتفت له في هذا الزحام؛ فيستجمع ما بقى من قوته، ويتجه لحافة الرصيف، وينظر بتركيز، كأنه يفكر: هل يمكن أن أقفز دون أن أسقط في الماء؛ فيفسد الطعام الذي أحمله، وتبتل ملابسي، وتُهان شيبتي؟
مرق سائق الميكروباص الذي يحملني، بسرعة، من فجوة ظهرت له فجأة في كتلة الزحام التي اعترضتنا في قلب الميدان.. التفت بعنقي مسرعا، فاصطدمت نظراتي بنظرات العجوز؛ لتطالعني أقسى نظرة رأيتها في حياتي.. مزيج من القهر والعجز والضعف والحيرة واللوم.
فقط اتمنى ألا تزورني تلك النظرة في كوابيسي، وأنا نائم.. تكفيني كوابيس اليقظة!
(2)
قبل معايشتي لهذا المشهد البائس، بيومين، استيقظ أهل الإسكندرية، في الصباح الباكر، على صوت \”بولدوزورات\” الإزالة الثقيلة، وهي تحطم أكشاك بيع الكتب الملاصقة لمحطة ترام \”محطة الرمل\”، ومعها، محل \”جوجو\” الشهير، الذي يبيع الفشار والمأكولات والمشروبات السريعة، والآيس كريم في فصل الصيف.
تقريبا، لا يوجد إسكندراني لم يجرب فشار \”جوجو\”، خلال فسحة عائلية أو بصحبة بعض الأصدقاء.. رائحته المميزة تعبق المكان دوما، ومن اعتادوا التمشية في هذه الساحة يعتبرون محل \”جوجو\” شيئا حميميا مألوفا، لا تستقيم الحياة دون وجوده.. تشتري فشارا أو أي شيء من \”جوجو\”، ثم تخطو خطوات بسيطة؛ لتصبح عند \”فرشة الكتب\” المميزة، التي قضيت أنا شخصيا شطر مراهقتي في التسكع حولها، اشتري كتابا أو اثنين، عندما أحوز المال، ربما صحيفة أو مجلة أدبية، وقد أكتفي بمطالعة العناوين وشحذ ذهني فقط.. كل هذا، بالنسبة لمدمني منطقة \”محطة الرمل\” من أمثالي أشياء شديدة الحميمية، كُنا نظنها \”عادية\”، ستستمر باستمرار الحياة، ولم نكن نعلم أن السيد المحافظ \”هاني المسيري\” سيستيقظ من النوم، ليكتشف أن أكشاك الكتب تشوه المشهد العام لمحطة الترام! هذا الإلهام الذي لا نعرف مصدره، والذي سقط فجأة داخل ذهن محافظنا النبيه، كان نتيجته مشهد الكتب الممزقة المعجونة بتراب الشارع، هنا وهناك على أرضية الساحة، ولافتة محل \”جوجو\” شديدة الألفة مكسورة، ملقاة بإهمال، تنتظر من يحملها بعيدا إلى القمامة.
يا ليت ذكرياتنا لم ترتبط \”بالترام\”، والذي يبدو أنه يُشكل عقدة من نوع خاص بالنسبة لمحافظنا النبيه \”هاني المسيري\”.
(3)
الشيء الأول الذي يتبادر لذهني تلقائيا، عند ذكر السيد \”هاني المسيري\”، المحافظ الحالي للإسكندرية، هي صورته، وقد جثا على ركبتيه، ينظر في اتجاه الكاميرا، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة، وبجواره على الأرض شاب فاقدا للوعي، إثر حادثة وقعت على طريق كان سيادة المحافظ يسير خلاله بسيارته، وعندما وقعت الحادثة، قرر سيادة المحافظ أن ينزل من سيارته، ويساهم بنفسه في إسعاف المواطن المصاب، وهو يبتسم للكاميرا بشغف.. اعتقد أن هذا الموقف شديد العبثية، رغم واقعيته وحدوثه بالفعل، يمكن أن يلخص كل ما يمكن أن يقال في حق السيد \”هاني المسيري\”.
جاء الرجل في البداية مصحوبا بضجيج شديد، حتى قبل أن ينطق قسم تولي المسئولية أمام رئيس الجمهورية؛ بسبب صور انتشرت له، بعد إعلان ترشيحه لمنصب محافظ الإسكندرية، وهو يمارس رياضة الجري، والسباحة، وصورة له وقد رسم على ذراعه \”تاتو\”، مما جعل جمهور الفيسبوك من النساء يهيمون غزلا في \”سيادة المحافظ الرشيق الوسيم\”، الذي يمارس الرياضة ويرسم التاتو.
وبعد زوال هذا الضجيج، بدأ سيادة المحافظ ممارسة مهام عمله، والذي أصبح في وقت قصير مصدرا لسخط وسخرية الكثيرين.
بعد تأمل طريقة إدارة \”هاني المسيري\” للمحافظة، يتبين لك أن لدى الرجل صورة شديدة النمطية والكاريكاتورية عن الإسكندرية التي يجب إصلاحها والعناية بها.. مشروعه الأكبر هو \”الترام كافيه\”، وسعر تذكرته 5 جنيهات.. طبعا هذا أمر للترفيه، ويرضي شغف سيادة المحافظ الأصيل بالترام، حتىإن الكثير من الشباب أسموه \”محافظ الترام\”، و\”كوني له تراما، يكن لك هاني المسيري\”! وكأن الإسكندرية تتلخص مشكلاتها في الترام، والعناية به، وتجميله، والحديث عنه.
وهنا يظهر الترام كتجسد مادي لطريقة تفكير السيد المحافظ تجاه المدينة: الإسكندرية الترام، الإسكندرية التي تظهر في الكروت السياحية وإعلانات العقارات، هذه هي ما تستحق العناية والاهتمام.. وماذا عن مشكلات النظافة، والمرافق، والبناء المخالف للعمارات، وأزمات المرور، والمواقف العشوائية للسيارات، وغيرها؟ لا شيء، لدينا ترام جميل يقدم المشروبات الساخنة والباردة، ومحطة ترام \”محطة الرمل\” تم تنظيفها من فرش الكتب الذي كان يشوهها.. كل شيء على ما يرام! المهم هي الواجهة المزيفة للمدينة.. لماذا لا يرتدي جميع رجال المحافظة ملابس الصيادين، وترتدي النساء \”الملايات اللف\”، ونؤدي سويا فقرات غنائية استعراضية في الشوارع؛ لتنشيط السياحة، وإرضاء شغف السيد المحافظ بالإسكندرية التي تكمن في مخيلته؟
الواقع يقول إن الإسكندرية مدينة تغرق شوارعها بالمياه المتراكمة، وتصاب حركة السير فيها بشلل شبه تام؛ بفعل بعض مياه الأمطار في موسم الشتاء، وبها أحياء كاملة يعاني سكانها من تهالك شبكات الصرف الصحي، ومياه المجاري تطفح في شوارعهم، تعوق حياتهم وتجعلها أسوأ مما هي عليه بالفعل، بينما المحافظ المسئول عن تنظيم أمور المدينة، وتسيير مصالح أهلها، مشغول حتى أذنيه بمشاكله الخاصة مع الترام.
لا أعرف كيف يمكن قول الحقيقة دون ذكرها صراحة.. لا أعرف كيف تصف الفشل إلا أنه فشلا! السيد المحافظ \”هاني المسيري\”، الحاصل على بكالوريوس إدارة الأعمال من جامعة \”كاليفورنيا\”، محافظ فاشل.. فاشل بدرجة امتياز.
يوم الإفطار الجماعى الذى أعلن \”المسيرى\” عن تنظيمه على كورنيش الإسكندرية، الذي تحول لفشل ومسخرة مضحكة تدفع للبكاء من فرط البؤس، والذي كان يهدف من خلاله إلى تسجيل المحافظة فى موسوعة \”جينيس\” للأرقام القياسية، باعتبارها أطول مائدة إفطار تقدّم للمواطنين، لكن سوء التنظيم حوّل المائدة إلى فوضى، نتيجة عدم توافر وجبات كافية للحضور، مما أدى إلى تدافع الأهالى واشتباكهم وتكسير عدد من سيارات نقل الطعام والمناضد المجهزة للإفطار، فى حين علق المحافظ منفعلاً: \”إحنا مش جايين ناكل، إحنا جايين نحقق رقما قياسيا\”.
أما نحن، فلا نحلم بموسوعة جينيس، الأكل وسد الرمق يأتي في المقام الأول يا سيادة المحافظ. نريد أن نأكل، نريد أن نعيش.. اعتبرنا في مقام الترام يا أستاذ هاني!