أحمد مدحت يكتب: ثورة لبنان التي صفعتنا

(1)

كل يوم، أمر على تل القمامة الذي يحتل ناصية الشارع الرئيسي، في المنطقة الشعبية التي أسكنها.. كانت في البدء كومة صغيرة من القمامة، تحتل مكان صندوقي القمامة، قبل أن يسرقهما أحدهم، ويترك تلك الكتلة السكانية الكبيرة بلا موضع لإلقاء القمامة سوى هذا الركن.. أصبحت الكومة مرتفعا من القمامة، والمرتفع صار تلا ملحوظا، والتل أصبح هضبة عفنة، تتصاعد منها أبشع الروائح، كأنها مجسم رمزي للخيبة والانحطاط الذي نحياه.

كل يوم، أمر بجوار هضبة الخيبة، أراقب الصبية الذي يجمعون القطع البلاستيكية من مخلفات الخلائق، في أجولة ضخمة يحملونها على ظهروهم، وتلك المرأة العجوز، ذات الانحناءة الأبدية، كأن ظهرها لم يعرف الاستقامة أبدا، تجمع بقايا الطعام، متعفن أو أيا تكون حالته؛ لتسد به رمق الأفواه الجائعة التي تنتظرها.

(2)

كيف اعتدنا حياة الصراصير؟

نشر أحد أصدقائي، على صفحته على فيسبوك، صورة لأحد شواطئ الإسكندرية، صورة مرعبة لو أردت رأيي! تل بارتفاع نصف متر تقريبا، من القمامة ومخلفات الطعام وحفاضات الأطفال المستعملة، جرفته الأمواج؛ ليستقر على الرمال، قبل الصف الأول من المصطافين الجالسين في منتهى الهدوء، يتألمون المياة وتل القمامة، كأنهم يتأملون منظر عاديا جدا، لا غرابة فيه.

فقط لو لمحتُ بعض التذمر، قليل من الدهشة في وجوه الجالسين في الصورة المرعبة، لما كنت أشعر الآن بكل هذا القرف.

كيف فقدنا الدهشة تجاه القبح، وكيف أدمناه؛ حتى أصبح هو طبيعة الأمور؟

(3)

الزمان

أيام ما كان

لسه فيه ناس ممكن تموت

مش لأجل لقمة ولأجل قوت

يعني الزمان كان من زمان

من قصيدة \”إني رأيت اليوم\” لـ \”مصطفى إبراهيم\”

أمّا في قصتنا هذه، فالحدث من زماننا، لا من الماضي.. وكأن القدر يريد أن يرينا أنه ما يزال هناك بشر مثلنا، يسكنون منطقة من العالم لا يفصلنا عنها الكثير، من الممكن أن يثوروا لسبب آخر غير الجوع وقلة الرزق والقمع الأمني، من الممكن أن يثوروا ويملئوا الميادين والشوارع؛ لأن القمامة تراكمت في شوارعهم.. هناك من لم يعتادوا حياة الصراصير.

لبنان، البلد المنهك، المثقل بجراح النزاع الطائفي، والحروب الأهلية الطويلة، ملأ أهله الشوارع والميادين، تصادموا مع قوات الأمن؛ لأنهم لم يتحملوا أن تترك حكومتهم الشوارع تحت احتلال القمامة المتراكمة.

هؤلاء قوم لم يعتادوا القبح.

(4)

منذ فترة، زار القاهرة صديق مغربي.. لم أستطع مقابلته؛ لأنني أقيم في الإسكندرية، ولا أنزل للقاهرة سوى للضرورة القصوى.. وهو في مطار القاهرة، حادثته عبر الهاتف، اعتذر له عن عدم تواجدي معه في زيارته الخاطفة للقاهرة.. عندما سألته عن انطباعه الأهم عن القاهرة بعد زيارته، قال لي بصوت بدا منزعجا: البيوت! البيوت يا أخي! لماذا لا تحولون تلك الكتل الخرسانية، التي أثقلها التراب والدخان، إلى مكان أفضل يصلح للعيش، دون أن يصيب الاكتئاب ساكنيه؟ هناك وسائل رخيصة لفعل هذا، لا يتطلب مالا كثيرا صدقني، فقط بعض الابتكار والمجهود.

صمت، وأنا لا أعلم كيف أخبره أننا هنا اعتدنا أن نحيا مدفوعين بغريزة البقاء، لا أكثر، دون سعي حقيقي للاستمتاع بالحياة ومباهجها، حتى لو كانت قليلة.

(5)

على مدار سنين طويلة من القمع والاستبداد، التي عانت منها مصر، ولا تزال تعاني، كان أكثر المتضررين من عملية التجريف التي جرت بانتظام دؤوب هم البشر أنفسهم.. حكامنا المستبدون لا يسرقون منّا ثرواتنا وحريتنا فقط، بل يسرقون أحلامنا، وشبابنا، وقدرتنا على تذوق الجمال، يسلبوننا الحياة من الأوردة، ويزرعون بدلا منها الخوف والفزع واعتياد القبح.

كانت تعليقات معظم المصريين على ثورة اللبنانين تجسيدا لبؤس الحال الذي نحياه ونعتاده.. اندهاش من قوم يثورون من أجل القمامة.. كيف يثور الإنسان على الدولة؛ لأن القمامة تراكمت في الشوارع؟! ما هذا الترف؟!

بينما بعض الذكور الآخرين، الأكثر بؤسا، يسخرون مما يحدث، ويشاركون في طقوس الدعاء الجماعي، يبتهلون من خلاله إلى الله؛ كي يسرع بخراب الأمور في لبنان، كي تبدأ سبايا الثورة اللبنانيات في التوافد إلى مصر، وباقي البلدان العربية؛ فينعم الذكور العرب باللحم الأبيض، الذي حُرموا منه كثيرا، بأرخص الأسعار، دون أدنى مجهود أو مشقة.

كيف وصلنا إلى هذا القاع؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top