أحمد مدحت يكتب: البراء يهمس لكم: أن تحبوا الحياة

(1)

استيقظت مبكرا، على عكس عادتي، مرتبكا للغاية؛ ربما بسبب قلة النوم، والإجهاد المتواصل لأيام، أو لعلَّه هذا الهاجس المُلِح الذي أخذ يهمس لي ان أستيقظ الآن، أن أقطع شريط الحلم المتصل منذ وضعت رأسي على الوسادة في الليلة السابقة، وأفتح عيني؛ لاستقبل يوما جديدا بأعبائه ومباهجه.

بعد دقائق من استيقاظي، رن هاتفي، ضغطت  زر الإجابة، قلقا من اتصال صباحي مبكر كهذا؛ لأجد صوت صديقي على الطرف الآخر، يضحك بعصبية وهو يلقي علي تحية الصباح.. صديقي منذ أيام الصبا هو، منذ المرحلة الإعدادية، أيام الأحلام الخضراء واكتشاف الذات.

لاحظت في صوته شيئا غير مريح، مفتعل ربما، رغم تعمده ادعاء البهجة وهو يذكرني كيف أبعدتنا الأيام، وأننا لم نتحدث منذ قرابة عام مضى. بعد فترة صمت طالت لدقيقة، سألته بشكل مباغت: أنت بتتكلم دلوقتي عشان حاجة معينة صح؟ فيه مصيبة حصلت؟

عاتبني على اتهامي له بأنه لا يتصل بي إلا إذا كان هناك شيء ما، لكنه لم يعاتبني على الثانية؛ لقد حدثت مصيبة بالفعل.

– أنت فتحت الفيسبوك ولا لسه؟

= لا لسه.. حصل إيه؟!

لقد مات البراء أشرف.

(2)

لم أستغرب أن يكون صديقي هذا هو أول من يبلغني بخبر موت \”البراء\”؛ فأنا أول من جعله يقرأ له، قبل أن يصبح من قرائه ومتابعيه الدؤوبين، مثلي.

مراهقين كنا، بشوارب نصف نامية وأرواح مضطربة وأحلام لا تناسبنا مطلقا لكننا نراها مناسبة، قرأنا سويا تدوينة براء الجميلة: \”ستة أسباب للحنين إلى روبي\”.. قرأتها صدفة، أثناء تجولي في عالم المدونات إياه، الذي بدا حينها، لمراهق مثلي يتحسس طريق حلم أن يصبح كاتبا يوما ما، بوابة سحرية لهذا العالم المغلق على أصحابه.. كان التدوين منّا، نشبهه ويشبههنا، صناعه في مثل سننا أو يزيدون ببضعة أعوام، بيننا وبينهم قنوات اتصال فكرية وافتراضية ممكنة، لا هوة متسعة كحالنا مع أهل الصحافة، ذوي الشوارب الضخمة والعبارات الصعبة التي لا نستوعبها.

كان انطباعي الأول عن \”البراء\” أنه يحب الحياة، حتى لو كانت لم تحبه بالقدر الكافي، شاب قادر على فلسفة ما يدور أمامه في الحياة دون افتعال، قادر على تدوين محبته وحنينه إلى روبي، بهذا الصدق، محتفظا بتلك الدهشة الطفولية تجاه الأشياء، لابد أنه يحب الحياة فعلا.. شاب، يشبهنا تماما، ربما يشبهني أنا شخصيا قليلا؛ لأنني \”بدين\” مثله، كما وصف نفسه في كتابه الجميل: \”البدين\”، يؤرخ من خلاله لجزء من معاناته منذ الطفولة للتعايش مع واقع كونه بدينا.

جمعتنا الصدفة، تابعته، شاهدت الكثير مما صنعه من أفلام، قرأت معظم مقالاته وتدويناته، كتبت بجواره في أحد المواقع وكنت سعيدا بهذا كطفل يتلقى قطعة حلوى كمكافأة من معلمه، صحيح أنني لم أحدثه أو أقابله أبدا، لكن ألا يكفي هذا لكي يكون صديقي، بشكل ما؟ كل هذه الذكريات، والموت الذي اختطفه فجأة من دائرتنا، والحنين إلى روبي الذي يجمعنا سويا، كل هذا يثبت أننا أصدقاء، بشكل ما.

(3)

مات \”البراء\” قبل أن يكمل الثلاثين من عمره، بعد أن ملأ الدنيا صخبا ونجاحا وسعيا لم يتوقف يوما.. كل من تعاملوا معه بشكل عابر، أو صادقوه، أو عملوا معه يوما ما، يتحدثون عن كتلة من الطموح والبحث عن الإبداع والجديد دائما.. مات قبل أن يكمل الثلاثين، بعد أن ترك في الأرض ما لم يتركه من ماتوا وهم في ضعف عمره.

إدراك الحكمة الإلهية هي غاية الإنسان، منذ استخلف الله \”آدم\” على الأرض.. دوما نريد أن نفهم لماذا فعل الله \”كذا\” و\”كذا\”، رغم التأكيدات الإلهية التي تفيد استحالة هذا، لكن سعي الإنسان وفضوله لا يتوقف.

لماذا مات \”البراء\” الآن؟ ما الحكمة المتخفية في ثنايا هذا الحادث المفجع المفاجئ؟

(4)

في كل مرة يختطف الموت أحد أحبتنا أو أصدقائنا من بين صفوفنا، ينبري الجميع ليؤكدوا أنهم أصبحوا يعرفون الموت جيدا، وتأتي الأيام لتؤكد أن القليل فقط هم من يتعلمون.

من منّا يفهم الموت حقا؟

يبدو الموت كصديق قديم لحوح، يأتي كل يوم في آخر الليل، يدق بابك برفق، يناديك بصوت هامس، يذكرك بأنه موجود، وأنه دوما يستطيع زيارتك أينما تكون، لا فرار منه، ولا مواعيد مسبقة معه.. لا يأتي لإخافتك، كما يظن البعض، بل يأتي ليذكرك بأن تحب الحياة، تحب ما أنت فيه ولا تتوقف عنده، ألا ترضى بحالك، أن تسعى دوما لتحقيق الأفضل، الأفضل بشكل مطلق لا أفضل المتاح، أن تعمل، تسعى، تجري حتى تنقطع أنفاسك، ألا تتوقف أبدا قبل أن يتوقف قلبك، ما دام قلبك مستمر في الخفقان؛ فعليك ان تستمر في السعي، واكتساب الخبرات، بحلوها ومرها.. الموت، بكل مراراته ومفاجأته وعبثيته أحيانا، يبدو كأكبر وأهم محفز يدفعك دفعا لحب الحياة.

مات \”البراء\”، بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا، لكنه مات في النهاية.. كلنا سنموت، لا خلود لأحد في الدنيا، هذه هي القاعدة التي يتفق عليها الجميع، لكن الفارق بين \”البراء\” وغيره ممن قضوا حياتهم دون أن يتركوا أثرا؛ أن سعيه وما أنتجه دفعني لكتابة هذا المقال، بعد أن تابعته لسنين، عمله وسعيه الدائم هو ما جعله \”البراء أشرف\”، وهو ما يرسم تلك الابتسامة المشوبة بالحزن على شفاه كل من عَرفه، حتى من لم يحبوه، لكنهم احترموا سعيه غير المزيف ومحبته الدءوبة للحياة.

(5)

بشكل شخصي، أشعر دوما أن الموت غير بعيد عني، وأنني حتما سأموت في سن صغيرة.. لا أعرف إن كان لهذا تفسير نفسي ما، أو هو أثر تلك الليلة التي احتضنتي خلالها جدتي بقوة، وهي تهمس: \”ابن موت يا حبيبي! ابن موت\”.

في إحدى مقالات \”البراء\”، كتب أن أبيه قال له نفس المعنى أيضا، وهو يمزح معه في طفولته، وأن صديق له كرر نفس المعنى ضمن وصلة لوم طويلة له.

ربما لهذا السبب أسعى دوما لتحقيق أكبر قدر من السعي الإيجابي، ومراكمة الخبرات، والنجاح، في سن صغيرة نسبيا، قبل أن أتجاوز الثانية والعشرين من عمري، حتى لو رأى من حولي في هذا تعجلا لا مبرر له.. لن أموت قبل أن أذوق مرارة الفشل؛ لأعرف بعدها حلاوة فرحة النجاح.. سأخبر من أحبهم أنني أحبهم حقا، ولن أترك المجال للكراهية كي تثقل نفسي وتأكل حياتي، لا وقت لدي للكراهية.. سأحاول ألا أؤجل عمل اليوم للغد، قد لا يأتي الغد، المهم ألا يمر اليوم دون أن أقابل أصدقائي، أحتضنهم، أشاغبهم.. سأكتب، أكتب بقدر ما أستطيع، أجمع الخيبات والانتصارات ولحظات النشوى، سأعتصر تلك الحياة بقدر ما أستطيع… سيأتي الموت حتما، ربما أسقط ميتا في الثانية التالية، قد يتوقف قلبي عن الخفقان في اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور، أتمنى فقط ألا أموت قبل أن أحيا، أن أترك بعد رحيلي أثرا يقنعك حقا أنني كنت حيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top