على غير عادته وبعد يوم عمل شاق، جلس أمام \”التليفزيون\” يستمع إلى حديث أحد رواد \”الزحف المقدس\” يترقبه في كلماته وأسلوبه المتعالي، خاصة فيما يتعلق باعتقال الصحفيين ومطاردتهم وأحوال ومواقف سجناء الرأي.
لم يخطر في باله سوى صور من يقبع خلف القضبان طيلة أعوام بحجة الحبس الاحتياطي، والمتهمين بالإبداع، أو تنشيط خيالهم.. وكان من بينهم صورة \”شاذة\” لإحدى مقدمات الخدمات المجتمعية في صورة فنية وطنية قانونية جنسية، والتي خرجت منها \”زي الشعرة من العجينة\”.. مثلها كمثل غير المغضوب عليهم في \”وطن بلا تشريع\”.
استمر هكذا في شروده لبضع دقائق قبل أن يُغلب على أمره ويذهب إلى نومه، تاركا واقعه المعتم، متوجها إلى أحلامه، متحسسًا فيها نورًا عادلًا ولو كان بصيصا.
سرعان ما استجابت أحلام نومه، هذه المرة، فقام فيها بكتابة مقالًا ينتقد من خلاله تصريحات الوزير المتعالي، وما قاله بشأن الصحفيين، والمطاردات الدائمة لحرية الفكر والرأي، مستنكرًا الزحف المستمر على الخيال.
لم تكن الأوضاع في حلمه كمثل واقعه، فأدرك الجميع وقتما كانوا أحرار.. شاهد نور ضحكات \”شوكان\” قبل أن يطفئها ظلام الحبس.. شاهد \”جمال\” أحمد زيادة قبل قبح اعتقاله.. شاهد ورد \”الصباغ\” قبل شوك قاتليها.. وغيرهم ممن كانوا ضحايا الحرية الخاملة.
أضحت مطاردته حتمية بسبب مقاله الذي وُصف بالمُحرِّض على العنف والمهدد للأمن القومي، وغيرها من التهم التي اعتاد سماعها مرارًا دون أن يعرف مدى علاقتها بالتعبير عن الرأي بالكتابة أو التظاهر السلمي!
لم يجد سوى الهروب بعدما صُعِّد الأمر، وبات معتقله ينتظره، أو ربما تتم تصفيته كمن سبقوه.. الانضمام لجماعة إرهابية، أو الاشتباه بقتل سياح، أو قلب نظام الحكم .. تختلف الاتهامات والمبررات والتصفية واحدة.
ظل أياما ينتقل من مكان ﻵخر، خوفًا من مصير يستنزفه ويأخذ من صحته وعمره، كمثل الموت البطيء.. كم تمنى أن يُطبِّق مقولة الشاعر \”ندِّم اللي يعورك واقطعله إيد\”.. كم تمنى أن يقطع كل يد امتدت بالظلم.. بالانتهاك.. بالقمع، كم تمنى أن يقطع يد من كبَّل يداه ويد غيره ومنعهم من الكتابة أو رفع لافتة!
استقر بحجرة صغيره على سطح إحدى العقارات العتيقة بوسط القاهرة.. يختبئ ويتابع الأخبار من حين لآخر عن طريق صديقته التي تزوره كلما هدأت الأجواء.
وقف على سطح البناء، يرمق من بعيد نقابة الصحفيين، والوقفات التي تُنظَّم كل فتره على سلمها من أجل حقوق الإنسان، أو الإفراج عن المعتقلين.. وغيرها، والتي تكون غالبًا فيها كثرة أعداد المصورين \”الصحفيين\” عن عدد \”الصحفيين\” المعتصمين، أو الأهالي، أو المنددين، وقتها لم يعرف هل الحل في الهروب، أم في وقفات النقابة الرتيبة، أم في أي؟!
في الليل ووسط تلك الأفكار جاءته صديقته حاملة الطعام وزجاجات مشبَّرة، لتبشره بخبر إقالة الوزير وأنه لم يعد بحاجة إلى الهروب بعد.
وقبل أن يحتفلا، وتُقرع الكئوس وتهبط كلمة \”النهاية\” مثلما يرى في الأفلام القديمة.. استيقظ من نومه وحلمه على خبر أسماء التشكيل الوزاري الجديد.
قام يتحسس حلمه الذي انتهى دون إيجاد حل، ودون أن يحتفل، وكعادته –منذ أن عمل بالصحافة- توجه بلا إفطار إلى عمله.. حاملًا حقيبة ظهره التي تحوي بعض الأوراق والأفكار وجهاز \”لابتوب\”، محتوياته اللعينة التي طالما كانت غنيمة لضباط الشرطة، ومخبري الأمن، و\”حماة الوطن\”، ومبرر قوي وسند متين لاستيقافه وقتما يشاءون وإلصاق التهم والسباب.
وسط بشر تجمعوا كيوم الحشر، انزلق بين ركاب المترو محاولًا تفادي ثاني أكسيد الكربون النابع من \”شكمانات\” الركاب داخل العلبة السردينية، متأملًا المحطات كلما وقف فيها المترو.. كل محطة تترك له تذكارًا وذكرى غير عزيزة على قلبه، إما استيقاف، أو بداية لاعتقال، أو تحقيقات واتهامات، منتظرًا مصيره، هل سيكون خلف القضبان، أم سيكون تحت التراب بعد عملية تصفية محكمة مبررة، أم سيحتاج إلى النوم مرة أخرى والعودة لأحلامه لإيجاد الحل المناسب؟!