لا يعلم الكثيرون من غير المختصين بالسياسة أن الانتخابات الأمريكية المزمع عقدها بعد أيام قليلة لا يتنافس فيها هيلارى كلينتون ودونالد ترامب وحدهما، ولكنها تضم أربعة مرشحين إلى جوارهما، بمجموع ستة مرشحين، خمسة حزبيين وواحد مستقل.
وبالرغم من أن هذا العدد قد يعتبر متوسط عدد المرشحين بمعظم السباقات الرئاسية الأمريكية، إلا أنه، ومنذ أكثر من مائة وثلاثين عاما، لم يخرج الصراع على كرسى الرئاسة الأمريكى من بين مرشحى الحزبين الرئيسيين، الديمقراطى والجمهورى، باستثناء مرة واحدة فى عام 1912، عندما حصل تيودور روزفلت صاحب الشارب العريض والنظارة المميزة على المركز الثانى، حينما خاض تلك الانتخابات ممثلا عن الحزب التقدمى دافعا مرشح الحزب الجمهورى إلى المركز الثالث.
كان تيودور قد وصل للرئاسة فى 1904 كمرشح الحزب الجمهورى ورفض الترشح لفترة ثانية بعد انتهاء مدته الأولى، فتبعه زميله الجمهورى ويليام تافت كرئيس جمهورية منذ 1908، إلا أن روزفلت عاودته الرغبة فى الترشح مرة أخرى فى 1912، لكن الجمهوريين فضلوا أن يرشحوا الرئيس حينها (ويليام تافت)، فانفصل روزفلت وبعض من رموز الحزب ودعوا لتأسيس كيان جديد، أسموه الحزب التقدمى، واستطاع روزفلت من خلاله أن يتفوق على تافت فى الانتخابات بعدما هُزم أمامه داخل أروقة الحزب، إلا أن ذلك الانقسام أفسح الطريق أمام المرشح الديمقراطى ويدرو ويلسون للفوز عليهما وتولى الرئاسة لفترتين متتاليتين. حُل الحزب الوليد بعد أربعة أعوام فقط من تأسيسه، بعدما عاد روزفلت نفسه إلى صفوف الجمهوريين مرة أخرى.
النظام الانتخابى الأمريكى نظام غير مباشر ويبدو معقدا حيث إن الناخبين لا يصوتون لمرشحهم الرئاسى مباشرة، ولكنهم ينتخبون مندوبين عن الولاية، وبدورهم يرشح المندوبون ممثل حزبهم، يبدو الأمر معقدا ولكنه شكلى، حيث تقسم أمريكا إلى ما يسمى بالكليات الانتخابية، وهم واحد وخمسون كلية، لكل منها عدد محدد من المندوبين أو الممثلين، وهو عدد متفاوت من ولاية لأخرى طبقا لتعدادها ومساحتها واعتبارات أخرى، بداية من 55 صوتا لكاليفورنيا وحدها وصولا لثلاثة أصوات فقط لعدد من الولايات مثل ألاسكا وفيرمونت ومقاطعة كولومبيا وغيرها، ومن يستطيع تحقيق الأغلبية بأى من تلك الولايات، حتى ولو بهامش ضئيل، يحصل على أصوات الولاية كاملة دون نقصان. فمثلا فى عام 2000، فاز بوش الابن فى فلوريدا بفارق 537 صوتا فقط من أصل ستة ملايين صوتا بالولاية، وبالتالى ضمن الـ 25 مندوبا الخاصين بفلوريدا فى المجمع الانتخابى كاملين مما حسم الصراع الرئاسى لصالحه. كانت تلك هى المرة الوحيدة عبر التاريخ الأمريكى التى يحصد فيها المرشح المهزوم عددا أكبر من الأصوات الفعلية، حيث نال آل جور –المهزوم- ما يزيد عن نصف مليون صوت أكثر مما حققه منافسه الفائز، ولكن تمثيل الأصوات بالكليات الانتخابية كان فى صالح بوش الذى حقق 271 صوتا مقابل 266 لجور.
ليست هذه المفارقة الوحيدة فى تاريخ الانتخابات الأمريكية، فزعيم التحرر الأمريكى الرئيس إبراهام لينكولن، الذى جسد دوره دانيال داى لويس منذ بضعة أعوام فى فيلم من إخراج ستيفن سبيلبرج، فاز فى فترته الأولى فى عام 1860 بنسبة 39.8% فقط، ولكن هذا الرقم كان كافيا للحصول على أكثر من نصف الـ (الكليات الانتخابية) مما مكنه من تولى الرئاسة.
فى انتخابات عام 2000 المذكورة سلفا، لعب الرجل الثالث بالانتخابات الرئاسية واحدا من أهم أدواره بالتاريخ الأمريكى، كان الرجل الثالث بذلك العام هو المرشح الشهير، صاحب الأصول اللبنانية، رالف نادر. ترشح نادر للرئاسة فى خمسة انتخابات متتالية منذ عام 1992 وحتى عام 2008، وخاض الانتخابات الخمسة بثلاث صفات مختلفة، فقد خاضها فى عامى 96 و2000 كممثل عن حزب الخضر المهتم بشئون البيئة ثم خاضها كمستقل فى أعوام 2004 و2008، أما عام 1992 فقد تقدم للانتخابات بنظام الـ (write-in candidate) وهو خاص بمن لم يستوفوا بعض شروط الترشح، فيصبح من حقهم أن يدعوا مؤيديهم لكتابة أسمائهم فى خانة خالية ببطاقة الانتخاب.
كان أشهر ظهور لنادر فى انتخابات عام 2000، حين تفوق بوش الابن فى فلوريدا بفارق 573 صوتا دافعين إياه إلى مقعد الرئاسة، وكان الرجل الثالث رالف نادر حاصلا على 100.000 صوت بالولاية نفسها، فلوريدا، مما عرضه لاتهامات من أنصار الحزب الديمقراطى بالتواطؤ مع بوش لتفتيت أصوات آل جور. زادت وتيرة الاتهامات لنادر مما أضطره للدفاع عن موقفه مستعينا ببعض الإحصائيات واستطلاعات الرأى التى أثبتت أن معظم من أيدوه وانتخبوه، كانوا سينتخبون بوش فى حال انسحابه.
عاد رالف للترشح لمرة رابعة فى عام 2004، ولكن كمرشح مستقل بتلك المرة. حاول جون كيرى، المرشح الديمقراطى فى مواجهة بوش، الاستفادة من درس فلوريدا الحاضر بالأذهان، دعا كيرى رالف نادر للقاء تنسيقى، محاولا إقناعه بالتنازل لصالحه. تقدم نادر بعشرين ورقة واضعا إياهم على مكتب كيرى مبرزهم كأهم مشاريعه الرئاسية، تضمنت الأوراق مشاريع شتى بخصوص ملفات مختلفة كالحفاظ على البيئة وتطوير القطاع الصحى والنظام الضريبى وقانون العمل، ووعده بأن يتنازل عن الترشح وأن يؤيده إذا وضع ثلاثة فقط من تلك المشاريع على رأس أولوياته. عاد نادر إلى منزله وانتظر ردا من جون كيرى، ولكنه لم يأت أبدا، فأعلن نادر نفسه مرشحا رئاسيا لمرة رابعة، ولحق كيرى بـ آل جور وخسر الديمقراطيون أمام بوش الابن مرة أخرى.
ورغم أن نادر بات الرجل الثالث الأشهر فى التاريخ الأمريكى الحديث إلا أنه لم يحصل أبدا على عدد تنافسى من الأصوات، حيث إنه لم يحصد بأى من الخمس انتخابات المتتالية أكثر من 1% فقط من الأصوات سوى فى عام 2000 حين حقق 2.7%. ولذلك يظل الرجل الثالث الأقوى عبر التاريخ الأمريكى الحديث هو الملياردير ورجل الأعمال روس بيروه، والذى استطاع فى انتخابات 1992 الحصول على 18.9 ٪ من الأصوات فى مواجهة كل من بوش الأب وبيل كلينتون.
فى شهر يونيو 92، أى قبل الانتخابات بحوالى ستة أشهر، تصدر بيروه استطلاعات الرأى متفوقا على مرشحي الحزبين الرئيسيين فى مفاجأة مدوية. وبدا أن لحياة بيروه الشيقة دورا فى هذا السطوع غير المتوقع، حيث بدا بيروه للأمريكيين كبطل هوليوودى، فهو الرجل الذى ترك عمله في IBM لعدم اهتمامهم بأفكاره وأنشأ شركته الخاصة التى واجهتها العديد من الصعوبات حيث لم يستطع أن يعقد أولى صفقاتها إلا بعد سبعة وسبعين محاولة فاشلة! لابد أنك شاهدت فيلما أمريكيا بحبكة مشابهة! ليس ذلك فحسب، للرجل المزيد من المغامرات سينمائية الطابع، كان أشهرها أثناء الثورة الإيرانية عندما اعتقلت السلطات الفارسية اثنين من العاملين بشركاته فى إيران، فقام بيروه باستئجار مجموعة بقيادة جنرال متقاعد بالقوات الخاصة الأمريكية –ربما تتخيل أنه تومى لى جونز مثلا- لخطف الموظفين من داخل السجون الإيرانية. بعد ثلاثة أعوام تقريبا، سيقوم الروائى الإنجليزى كين فوليت المتخصص فى روايات الإثارة والروايات التاريخية بتسجيل أحداث تلك العملية فى كتاب له اسماه (على أجنحة النسور)!
أثار الأنيق بيروه إعجاب الناخبين الأمريكيين محققا أكبر إنجاز لأى رجل ثالث فى الانتخابات الأمريكية خلال قرن ويزيد، أنفق الملايين من الدولارات على حملته من جيبه الخاص، لم يعتمد على أية متبرعين وأغدق على الحملة من ثروته الشخصية الطائلة، واستطاع أن يزاحم المرشحين الحزبيين فى استطلاعات الرأى، مما دفع المنسقين لعقد مناظرة ثلاثية للمرة الوحيدة فى التاريخ الأمريكى، حيث شارك بيروه مع كل من بوش وكلينتون فى المناظرتين التليفزيونيتين، وكان ندا لهما واستطاع أن يحافظ على صورته التى رسمها له الأمريكيون. إلا أن استطلاعات الرأى أعطته فى الأسابيع الأخيرة قبيل الانتخابات 8-9% فقط من الأصوات وهو ما سيتبين مخالفته للواقع لاحقا. ربما كان لتلك النتائج المزيفة أثرا سلبيا على حصيلة بيروه، ربما ساهمت فى تحجيم فرصه، وربما يد ما عبثت بأرقام الاستطلاعات حينها. ولكن، وبالرغم من حصوله على حوالى 19% من إجمالى الأصوات إلا أنه لم يستطع أن يحقق صوتا واحدا من أصوات المجمع الانتخابى، حيث كانت أصواته موزعة بين الولايات المختلفة ولم يحصد المركز الأول بأي من الولايات الخمسين أو العاصمة واشنطن.
وهو عكس التكتيك الذى اتبعه مرشح حزب (أمريكا المستقلة) فى انتخابات 1968، جورج والاس، الذى حصل على 13.5% من الأصوات ولكنه عمل على تركيز حملته بولايات بعينها، الولايات الجنوبية بالأخص، فتصدر الانتخابات بخمس ولايات منها، محققا 46 صوتا فى المجمع الانتخابى من أصل 538، كان نيكسون، المنافس الجمهورى لوالاس، يبدى تخوفه من تفتيت الأخير لأصوات الجمهوريين، إلا أن توجهات والاس بخصوص السياسة الخارجية وإعرابه عن استعداده لسحب القوات الأمريكية من فيتنام خلال ثلاثة شهور قللت تماما من فرصه.
بعد انجاز روس بيروه فى انتخابات 1992، أسس رجل الأعمال البليونير حزب الإصلاح، وخاض على رأسه انتخابات عام 1996 ولكنه لم يحقق إلا 8.4 % من إجمالى الأصوات بنسبة تقل كثيرا عن سابقتها. كان بيروه قد بدأ تراجعه وهبوط أسهمه قبلها بثلاثة أعوام، وتحديدا عندما بدا ضعيف الحجة وقليل الحيلة أمام آل جور -نائب الرئيس وقتها- فى مناظرة عقدها بينهما الإعلامى لارى كينج ببرنامجه الشهير، وهو البرنامج نفسه الذى أعلن فيه بيروه قبلها بأقل من عامين ترشحه للرئاسة للمرة الأولى، وكأن لارى كينج كان شاهدا على انطلاقة بيروه وانطفائه.
يخوض الانتخابات المرتقبة أربعة مرشحين من خارج الحزبين الرئيسيين، داريل كاسل، إيفان ماكولين، جيل ستاين مرشحة حزب الخضر، وجارى جونسون مرشح الحزب الليبرالى، والأخيران يخوضان السباق الرئاسى للمرة الثانية على التوالى، أما إيفان ماكولين فهو المرشح المستقل الوحيد بعد استقالته من الحزب الجمهورى. وعندما سُئل رالف نادر عن موقفه من الانتخابات المقبلة، هاجم الرجل الثالث الأشهر كلا من هيلارى وترامب واصفا الأخير بالقرد، كما دافع عن كل من جيل ستاين وجارى جونسون، داعيا الأمريكيين إلى ضرورة الخروج من ثنائية الديمقراطيين والجمهوريين وتمهيد الطريق لأحزاب أخرى وسياسيين جدد، أما رجل الأعمال روس بيروه، والذى اعتاد تأييد أحد المرشحين فى الانتخابات المتعاقبة رغم ابتعاده عن السياسة منذ سنين، فلم يعبر عن رأيه هذه المرة ومازال ملتزما الصمت.
يتوقع المحللون أن يلعب جارى جونسون دورا ما بتلك الانتخابات المنتظرة، أن يكون رجلا ثالثا مهما، حيث إنه مازال محتفظا بنسبة مميزة فى استطلاعات الرأى تصل إلى حوالى 9%، رغم حصوله على 1% فقط من الأصوات منذ أربعة أعوام. البعض يخشى من أن يؤدى جارى دورا فى تفتيت الأصوات مساهما فى حسم الأمر لصالح ترامب، على غرار الاتهام الموجه لرالف نادر فى سباق آل جور وبوش، ولكن نادر نفسه علق على تلك الاحتمالية، ودعا مؤيديه لانتخاب الأفضل حتى وإن بدا دون فرص كبيرة وألا يعبأوا بتلك الحسابات، معتبرا أن هذا هو الطريق الوحيد لتأسيس حزب ثالث يستطيع كسر تلك الثنائية الأبدية وإنقاذ السياسة الأمريكية من أمثال هيلارى كلينتون ودونالد ترامب.