حتى وإن لم تكن مهتما بها ولا تهوى مشاهدتها، فإنك بالتأكيد تعرفه، هذا القصير مكتنز الجسم بفانلته المخططة بلونى الأبيض والأزرق السماوى وبقفزته الشهيرة وجريته الثعبانية. أما إن كنت من المهتمين بمتابعة كرة القدم، فلابد أنه قد أذهلك وسلب عقلك وتلاعب بمشاعرك وهو يحمل كأس العالم بابتسامة طفولية أو وهو يبكى بعد خسارة ظالمة بنهائى كأس العالم 1990، أو حتى عندما رأيته وقد زاد وزنه وأصبح أقرب إلى لاعبى السومو منه إلى لاعبى الكرة.
بزغ نجم ماردونا بكأس العالم للشباب 1977 ولم يخفت أبدا، أصبح نجما تحبه الأضواء وما تلبث أن تظن أنه توارى وبعد عنها حتى تراه يتوسط الصورة مزيحا عن طريقه نجوما بارزين ليطغى هو بحضوره المميز وكاريزماته اللافتة، وأحيانا بسلوكه المثير للجدل والمشين ربما، وحياته الشخصية المضطربة وما صاحب مسيرته من إدمان ومافيا وكوكايين. رغم كل ذلك لم يفقد ماردونا قلوب محبيه، بل اكتسب مزيدا من التعاطف، فقد لا يجيد مهنته كمدرب وقد ينهزم بالخمسة، ولكنك تلتمس له الأعذار وتنسب له الانتصارات ولو زورا، هذا هو ماردونا الذى يملك نظرة تمتزج فيها براءة الأطفال باستهتار المراهقين، فلا تستطيع إلا أن تحبه.
****
ولد الدييجو بعام 1960 أى بعد عام واحد من صعود فيديل كاسترو ورفاقه إلى سدة الحكم ودخول كوبا وأمريكا الجنوبية بشكل عام إلى منعطف تاريخى جديد. كان الطبيب الأرجنتينى جيفارا قد تعرف بالثائر الكوبى فيدل كاسترو فى المكسيك. كان كل منهما فى مكسيكوسيتى لأسباب مختلفة تماما عن الآخر، كاسترو فى رحلة بحث عن سلاح من أجل ثورته الوليدة وجيفارا بصحبة زوجته بحثا عن عمل. انجذب الشاب الأرجنتينى ذو الصدر المريض إلى صديقه الكوبى ذى الذقن غير المشذبة. وبعد حوالى خمسين عاما، كان كاسترو على موعد مع ملاقاة نجم أرجنتينى مريض آخر، وذلك عندما وجه كاسترو دعوة لمارادونا أن يأتى إلى الهافانا برحلة استشفائية من إدمانه للكوكايين الذى لازمه على مدار خمسة عشر عاما، حيث أوقفه عن اللعب فى أوج عظمته عام 1991 وأبعده عن كأس العالم 1994، ثم أبعده عن اللعبة برمتها عام 1997 وهدد حياته مرتين بعامى 2000 و2004، توقف قلبه وكاد أن يموت فى ثانيهما. بعد شفاء النجم الكبير وعودته للأرجنتين، وقبيل تنحى كاسترو وتولية أخيه راؤول بـ٢٠٠٨، رد فيدل الزيارة لصديقه حيث استضافه مارادونا ببرنامجه التليفزيونى (ليلة الرقم 10).
لم يلتق كاسترو بجيفارا منذ مقتل الأخير ببوليفيا على يد بعض العملاء الأمريكيين، إلا على جسد مارادونا حيث أحتل وشم لوجه كاسترو ساقه اليسرى، وتمدد جيفارا على ذراعه اليمنى.
****
بدأ اهتمام دييجو بالسياسة مع بداية حرب الفوكلاند، كان مارادونا حاضرا باستعدادات الأرجنتين لكأس العالم 1982، وكان الجنود اللاتينيون يتجهزون بساحة القتال لحرب الفوكلاند، كلاهما يعرق ولكن لعرقهم طعم مختلف. لم يشارك مارادونا بالحرب ولم ينضم للجيوش، وجاء بعد أربعة أعوام ليخوض حربا من نوع خاص، النوع الذى يجيده ويبرع فيه، عندما راوغ نصف لاعبى الفريق الإنجليزى (العدو) محرزا الهدف الأجمل تاريخيا، وتبعه بهدف آخر مد فيه ذراعه لتدفع يده بلده نحو كأس العالم ونحو انتصار على المنتخب البريطانى، وحينها قال دييجو جملته الشهيرة \”لم تكن يدى، إنها يد الله\” وأضاف أن المباراة كانت هزيمة دولة وليست مجرد هزيمة منتخب كرة، \”بالرغم أننا أعلنا من قبل أن الكرة لا علاقة لها بالحرب، إلا أننا نعلم أنهم قتلوا العديد من أطفال الأرجنتين، قتلوهم كما تقتل العصافير الصغيرة. وهذا هو انتقامنا\”.
فى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، كان مارادونا جزءا من الحملة الإنتخابية للرئيس النجم اليمينى اللامع كارلوس منعم، وهو ما لا يتفق نهائيا مع توجهات مارادونا السياسية التى سيتبناها لاحقا والعلاقة التى ستربطه بالرئيس الكوبى السابق فيدل كاسترو، الذى وصفه مارادونا بالإله بالنسبة له، فقد عُرف صاحب أمهر قدم يسرى بالتاريخ، لاحقا بميوله اليسارية وتأييده المستمر لصديقه كاسترو وكذلك الزعيم الفنزويلى الراحل هوجو شافيز حيث قال ذات مرة: \”أنا أؤمن بشافيز، أنا شافيزى، كل شئ يفعله فيدل، كل شئ يفعله شافيز، هو الأفضل بالنسبة لى\”
وكذلك لم يفوت شافيز فرصة استغلال شعبية النجم الأرجنتينى عندما دعاه لافتتاح بطولة كوبا أمريكا فى فنزويلا بـ 2007.
ولم يتوقف دور ماردونا عند حدود قارته، بل أمتد نفوذ الأرجنتينى وشهرته إلى النصف الآخر من العالم، فدعاه الحزب الشيوعى الهندى لزيارته بعد فقدانه عدد كبير من المقاعد البرلمانية لعام 2009، تمت دعوته لمقابلة جيوتى باسو، رئيس الحزب الماركسى، وافتتاح عدد من الملاعب الكروية وكانت الدعوة مصحوبة بصورة تجمع جيوتى باسو بفيديل كاسترو من أجل إقناع مارادونا وتحفيزه لقبول الدعوة.
زاد اهتمام ماردونا بالقضايا السياسية فى السنوات الأخيرة، فهاجم بابا الفاتيكان ذات مرة قائلا: \”لقد ذهبت إلى الفاتيكان وشاهدت السقف الذهبى، ثم سمعت البابا يتحدث عن اهتمام الكنيسة بالأطفال الفقراء، إذن، بع السقف، أفعل شيئا يا رجل\”. كما أعلن تأييده لإيران بعهد أحمدى نجاد ضد الهيمنة الأمريكية، ولم يترك فرصة إلا وهاجم الولايات المتحدة وسياساتها اللاإنسانية. وكانت أبرز تحركات مارادونا المناهضة لجارتهم الشمالية عندما خرج بعام 2005 بمظاهرة رافضة لزيارة بوش للأرجنتين حاملا لافتة (أوقفوا بوش) واصفا إياه بالمزبلة البشرية. كان ذلك فى ظل حكم الرئيس الأرجنتينى الراحل نيستور كريتشنر، قبل تولى زوجته الحسناء كريستينا كريتشنر منصب الرئاسة خلفا له بعام 2007، وهى يسارية النزعة مثل زوجها، واجهت بعض المشاكل بالانتخابات النصفية للبرلمان بعام 2009، مما دفعها للاستعانة بمارادونا معلنة أثناء زيارتها لأحد معامل استنساخ الحيوانات، أنها تود لو استطاعوا استنساخ مارادونا آخر أو ليونيل ميسى جديد.
***
بعد ساعات من وفاة كاسترو، نشر مارادونا على صفحته الشخصية على الفيسبوك صورة قديمة تجمعه بالرئيس الكوبى السابق وهو يرتدى بدلته العسكرية ويضع يده فوق كتف مارادونا الذى ينظر إليه بابتسامة يملؤها الإعجاب، أو ربما الانبهار. ليس سهلا أن تُبهر شخصا خاض كل طرق الحياة مثل مارادونا، إلا أن كاسترو قد فعل، بأفكاره وأقواله الحكمية ولحيته الخشنة البيضاء وسيجاره الشهير. كتب مارادونا بالإسبانية فوق الصورة:
\”مات صديقى، المؤتمن على أسرارى، الرجل الذى طالما نصحنى، الرجل الذى أعتاد أن يتصل بى فى أى وقت لنتحدث عن السياسة، كرة القدم، والبيسبول، الرجل الذى قال لى عندما ذهب كلينتون إن القادم أسوأ، وقد كان بوش. كالعادة لم يخطئ أبدا. بالنسبة لى كان فيدل، ومازال وسيظل، باقيا إلى الأبد، الوحيد، الأعظم. إن قلبى ينزف لفقدان العالم للرجل الأكثر حكمة على الإطلاق\”
ربما لا تتفق مع مارادونا تماما، وربما أنا أيضا، ولكنى لست هنا لمناقشة السياسة وأحاديثها اللانهائية، سيتفرغ الكثيرون لفعل ذلك ولتسويد الصفحات بالتحاليل السياسية وتأويلات التاريخ، ولكننى فقط حاولت أن أقترب، أنظر، أتتبع علاقة الصديقين الشهيرين المثيرين للجدل على مر العقود، الصديقين اللاتينيين، الثائر والحريف.