الموضوع باختصار أن شابين يعملان بالمجال الفني، تملأهما الطاقة الإبداعية الممزوجة بقدر من الغضب المكتوم بعد سنين من القهر والإيلام والظلم.. فقررا في الذكرى السنوية الخامسة لأول أيام إطلاق مشاعر الغضب والتمرد في وجه الطغاة، أنهما يقدما عملا فنيا بسيطا، يقدران فيه إن يطلقوا جزءا من طاقتهما الإبداعية وينفسان عن أقل القليل من غضبهم المكتوم، وعلى الجهة الأخرى سلطة غاشمة مسعورة عايشة عدة أسابيع من الخوف والرعب من تجدد انفجار الغضب، بايتة في الشوارع.. أجسام أفرادها ترتعد من الخوف والتوتر قبل ارتعادها من البرد القارس.. ولما ظهر العمل ده، وظهر مقدار السخرية، انفجر السعار ومحاولة انتقام بائسة لكرامة وهمية يقف خلفها خوف حقيقي!
فيديو شادي ومالك وردود أفعال أهل السلطة عليه، بعيدا عن أنه أعادوا شحن مشاعر غضب وثورة كبيرة، بعد أن أفرغها اليأس والإحباط، إلا إنه كمان أعاد للأذهان معركة إنسانية قديمة، وهي المعركة التي نشأ على أثرها مفهوم الدولة، وهي معركة الأخلاق والأخلاقيات، وهي معركة ذات هوية عربية في الأساس.. الصراع بين مفهوم الأخلاق والأخلاقيات.. حيث إنه كان هناك شبه اتفاق في الضمير الجمعي العربي على الخلط بين الأخلاق والأخلاقيات، وفي رأيي أن هذا الخلط هو أهم معالم الابتعاد الحضاري الكبير الحالي بين المجتمعات العربية والغربية.
فالأخلاق هي مجموعة من القيم والمبادئ التي تتحرك بها المجتمعات.. أبرزها (العدل, المساواة, والحرية) في حين أن الأخلاقيات هي مجموعة من القيم والآداب المتفق عليها بشكل لفظي أو كتابي بين أرباب مهنة معينة! أو ما يسمى بأخلاقيات المهنة، والتي تحدد القواعد والقوانين التي تدير تلك المهنة.. سبب الخلط بين هذين المفهومين يعود لجذور المجتمعات العربية في مرحلة ما قبل الدولة.. وتحديدا في شبه الجزيرة العربية، منشأ الهوية العربية في مفهومها الحالي.. حيث إن غالبية العرب في تلك الفترة كانوا يعملوا بالرعي، وبالتالي كانت منظومة الأخلاقيات التي تدير تلك المهنة، هي المشكل الرئيسي لمنظومة أخلاقيات المجتمعات العربية بأسرها، فكانت الشهامة والرجولة والنخوة والشجاعة والكرم من جهة.. ومن جهة أخرى كانت هناك مفاهيم التميز الذاتي وإقصاء الآخر وتهميش دور المرأة وتحقير شأنها.. وهكذا عاش الوعي العربي سنين طويلة تتحرك ثقافته ومنظومته الأخلاقية بأخلاقيات مهنة الرعي، وحتى بعد ظهور الإسلام وقيامه بنشر فكرة الفصل بين الأخلاق والأخلاقيات، وتأكيده على القيم الأخلاقية من عدل ومساواة وحرية، إلا أنه وبعد وفاة الرسول وتوالي أحداث الصراع السلطوي، بالإضافة للتوسع الجغرافي السريع، تحرك هذا التوسع من خلال منظومة أخلاقية قبلية ورعوية، وظلت قيم الأخلاق مجرد أدبيات فلسفية غير فاعلة في الوعي الجمعي العربي، حيث ظلت مفاهيم مثل (العدل والمساوة والحرية) مجرد أدوات تتحرك داخل منظومة الأخلاقيات السابق ذكرها، وهو الأمر الذي ظل يحفظ للمجتمعات العربية الطبيعة القبلية، حتى لو كان مفهوم الدولة موجودا بشكل ظاهري وسطحي.
ومع قيام ثورة 25 يناير 2011، كان عنوانها الرئيسي ومطلبها الأهم (عيش, حرية, عدالة اجتماعية)، فكانت ثورة أخلاقية في المقام الأول.. ثورة تطالب بتطبيق منظومة الأخلاق الأهم لإقامة مجتمع إنساني يملك أبسط حقوقه في حياة إنسانية كريمة يتساوى فيها الجميع تحت قانون عادل يحمي حقوق الضعفاء وأصحاب الأقلية قبل الأغلبية، وبطبيعة الحال كانت هذه المطالب مصدر تهديد صارخ ومباشر لأصحاب المنظومة القبلية.. أصحاب السلطة والمتمتعون بقوتها وثمارها، إلا أن المعركة كانت مختلفة -في تفاصيلها وظروفها- عن مثيلات تلك المعارك في العصور السابقة.. سابقا كان مصير كل من يواجهة السلطة مطالبا بحقوقه الإنسانية الأساسية في الحرية والعدل والمساواة، هو التنكيل والقتل والتعذيب (دون تبرير أخلاقي).. الآن الوضع مختلف.. عولمة فرضت مصالح دولية متشابكة، وشبكة إعلامية وتواصل اجتماعي أوصل شعوب العالم كلها ببعضها، فأصبح من الصعب التنكيل بدعاة الحرية والمساواة بنفس الفجور والوجه المكشوف في العصور السابقة، وهنا لجأت السلطات المتوالية لاستخدام الأخلاق ذاتها كسلاح، تشهره حين الحاجة.. سواء كانت حاجة إعلامية أو سياسية.
وهذا الصراع تحديدا هو ما ظهر مع أزمة فيديو \”شادي\” و\”مالك\”، فعلى الرغم من القصور الأخلاقي الفاضح في تعامل جهاز الشرطة مع المجتمع على المستوى الفردي والجمعي، وعلى الرغم من توفر الأدوات التي تتيح تسجيل كل تفاصيل هذا القصور، بل \”الفجور\” الأخلاقي لهذا الجهاز الأمني صوتا وصورة، إلا أن هذا لم يمنعهم ولم يمنع دراويشهم والطامعين في رضاهم، أو تجنب بطشهم من تجاهل وتناسي والتعامي عن كل تاريخهم الأسود الدموي، والصراخ والعويل بدعوى الأخلاق، لمجرد قيام شابين بإهدائهم \”بالونات الواقيات الذكرية\”.. جل ما أصابوه من خلال هذا الفيديو، هو سكب الملح على جرح سلطوي لم ولن يغلق.
هذه الأزمة أكثر ما قدمته هو تسليط الضوء على هذا الجزء من الصراع، وهو قيام منظومة الأخلاقيات الرعوية باستخدام سلاح الأخلاق في حربها ضد إقامة منظومة الأخلاق ذاتها! فأصبح من الطبيعي من خلال الصراع القائم وتذكر جرائم الجهاز الأمني الإنسانية أن يقال: \”جدع يا شادي.. جت في كرامة الباشا\”.