من أهم وأكبر الأزمات اللي بتواجه أي عمل فني بيسرد أحداث متشابكة ومليانة صراعات فكرية وأيدولوجية حصلت في زمن قريب، أنها بتجبر المتلقي بشكل كبير على إنه يتناسى الطبيعة الفنية و\”التعبيرية\” للعمل ده ويدخله في خانة التوثيق والقياس التاريخي! ودي من أكبر الأزمات اللي واجهت فيلم \”اشتباك\”، واللي زاد من حدتها هو أسلوب الدعاية غير المباشر وغير الموفق اللي تم اتباعه، واللي كان هدفه في رأيي هو محاولة جذب تيار كبير معروف عنه قدراته القوية على الحشد، فكانت النتائج عكسية!
بس في النهاية سيبقى الفيلم في الذاكرة السينمائية وستزول الضجة بزوال أسبابها.
مش هانكر أني لما دخلت الفيلم، دخلته وأنا في حالة من التحفز راجعة لكذا سبب، أهمهم إني مش من معجبي سينما محمد دياب عمومًا بسبب إحساسي الدائم بالتحفظ والسعي نحو مراعاة القيم المجتمعية العامة، وده في رأيي عوار كبير في أي عمل فني بشكل عام! بجانب تأثري -نوعًا ما- بالجدل المثار حول الفيلم وأفكاره وميوله وحملاته التسويقية، ومش هانكر كمان إنه خلال مشاهدتي خصوصًا في النص الأولاني، حسيت إن الفيلم فعلًا ماشي في سكة \”قولة حق يراد بها باطل\”، بس بعد تصاعد الأحداث وتطور الشخصيات، أدركت إنه كان إحساس متسرع، وإن الفيلم بجانب أهميته الشديدة على الجانب الفني والتقني، فهو مهم جدًا على الجانب الإنساني.
زي ما قلت في الأول، محمد دياب خلال بداية صناعته للفيلم ده من خلال كتابة السيناريو مع خالد دياب، حطوا نفسهم في عدة تحديات درامية وتقنية مش سهلة، ونجحوا فيها كلها تقريبًا.
على مستوى تحديات الكتابة، كان تحدي وضع كل التيارات الفكرية والأيدولوجية شديدة التباين والتصارع في الوقت ده وفي أكثر الأوقات إحتقانًا في خلاط \”عربية الترحيلات\” علشان يقدر في لحظة معينة بعد ما \”فصص\” كل تيار فيهم إنه يخلطهم ويحطهم قدام خطر كبير مشترك ويطلع منهم خط إنساني واحد بدون ما يلوي دراع الدراما أو يحسسني كمتفرج إنه بيستكردني علشان يوصلي الفكرة اللي هو عاوز يقولها من الأول.. بالعكس، آل دياب صمموا ورسموا الشخصيات بشكل دقيق جدًا على المستوى الفردي وعلى المستوى التفاعلي بين الأفراد دول، وخلى خط تصاعد كل شخصية منهم يمشي على إستقامته من خلال تصاعد الأحداث نفسها، علشان لما يحصل لبعض الشخصيات إنها تتلاقى خلال بعض النقاط، وكل الشخصيات تتلاقى في نقطة واحدة، يطّلع المزيج الإنساني الفطري المجرد ليهم كلهم بشكل إنسيابي وتلقائي وحقيقي.
دي كانت من أهم تحديات السيناريو الصعب ده، واللي أنا شايف إن آل دياب نجحوا فيها بشكل هايل.
ومن التحديات المهمة برضه اللي واجهت كتابة الفيلم ده، ضبط (بوصلة الحياد) لصناع الفيلم من كل الشخصيات والتيارات وأطراف الصراع.. شايف إن ده أقل تحدي نجحوا فيه، وضعف النجاح ده كان سببه الرئيسي والوحيد تقريبًا هو وضوح ميل بوصلة الحياد ناحية الشرطة بشكل ضايقني.. مفهوم طبعًا إنه كان بيحاول إظهار الجانب الإنساني من كل أطراف الصراع، بس فكرة إظهار الجوانب الإنسانية بشكل عام في الشخصيات محتاجة إنك تعري الإنسان ده وتبين الملاك والشيطان اللي جواه.. بوصلة الفيلم في تعاملها مع صورة الشرطة كانت مايلة زيادة ناحية الجانب الملائكي، وحتى لما كان بيظهر \”بعض التجاوزات\”، كان بيجري بسرعة يخلق لها المبرر القوي اللي يرجع يخلي البوصلة تميل تاني للملائكية.
رغم إن الجانب الشيطاني من منظمة الشرطة لا يقل شراسة عن التنظيم الإخواني.
والمشكلة الأكبر كمان إن طبيعة القصة كانت مع واحد من أسوأ أجهزة الشرطة، وهو الأمن المركزي! بس اللي ساعدني على تجاوز المشكلة دي حاجتين مهمين:
أولًا إنه بما أني اشتغلت وباشتغل سينما، ومن خلال إدراكي إننا بنعيش أسوأ وأسود فترات حرية التعبير، واللي سقفها انخفض لمستويات غير مسبوقة، فأنا كنت متفهم للإجراء ده، لإنه من غيره كان مؤكد جدًا الفيلم وبمنتهى البساطة مايشوفش النور، وساعتها هايكون كل اللي بيعمله عبث.. مع العلم إنه كان ممكن بحلول بسيطة يتجاوز التحدي ده ويرفع عن نفسه الحرج عن طريق تهميش أكبر لدور قيادات وظباط الأمن، ولكن في الآخر ده كان قراره.. بس من ناحية تانية ده كان متعارض مع (الدعاية غير الموفقة) اللي صاحبت الفيلم، واللي كانت بتحشد الناس عن طريق الإدعاء بإن الفيلم بيتحارب، وده بلا شك كان مش حقيقي.
السبب التاني إن دور الشرطة في الصراع الدرامي للفيلم ماكنش كبير ومهم، وبالتالي تأثير \”شطط بوصلة الحياد بخصوص الشرطة\” ماكنش كبير.
أما بخصوص ما قيل عن تعمد شيطنة جانب الإسلاميين في الفيلم، فأنا شايف إنه قول فيه تجنٍ كبير جدًا على صناع الفيلم.. أولًا الشيطنة للتيار ده كانت ظاهرة قوي على مستوى التنظيم، ودي حقيقة كاملة محدش ينفع ينكرها غير أهل التيار ده (أبناء التنظيم ده ومحبيه).. فترة حكم الإخوان واللي بعدها أظهرت جانبا شيطانيا للتنظيم ده ماكانتش ظاهرة وهما بيلعبوا دور المعارضة، إنما على المستوى الفردي للشخصيات الممثلة للتيار الإسلامي، فكلهم خدوا حقهم الكامل في إظهار الجانب الإنساني في كل واحد فيهم من أكبرهم لأصغرهم.
صناع الفيلم عرفوا بمهارة -إستثنائية- إنهم يتلاعبوا بمشاعر المشاهد ناحية كل الشخصيات بما يخدم خط الفيلم الدرامي.
على المستوى الإخراجي والتقني: هارجع أكرر تاني إنه من أهم تحديات الفيلم ده هي فكرة خلط تيارات متصارعة في مكان واحد وخلق مجموعة من الأحداث اللي تؤجج الصراع ده، فكان من أهم تبعات التحدي ده على مستوى الإخراج هي فكرة إن الفيلم بالكامل يتصور داخل عربية الترحيلات.. كل الزوايا والكادرات بتتاخد من جوا العربية حتى المشاهد اللي حصلت على باب العربية واللي شخصيات فيها أضطرت للخروج، أتاخدت من جوا العربية، ومشهد إنقلاب العربية اللي أتنفذ بحرفية عظيمة وغير مسبوقة.. قرار مش جديد في السينما المصرية، بس صعب جدًا في التنفيذ نظرًا لطبيعة المكان نفسه وطبيعة الأحداث المحركة داخل المكان وخارجه.. صعوبة نجح فيها ببراعة شديدة مدير التصوير الهايل \”أحمد جبر\”.. التحدي ده بيجبر المشاهدين إنهم يلاقوا نفسهم جوا عربية الترحيلات، وكمان بيلاقوا نفسهم بياخدوا جانب كل تيار هو ميّال ناحيته، وبتشارك كل الشخصيات صراعاتهم.. هانتخانق جواها ونضرب بعض ونمّوت بعض ونكره بعض ونصّنف بعض، وفي لحظات معينة هانتلاقى ونقعد نهزر ونضحك، ونرجع نتصارع تاني لحد ما تيجي لحظة حرجة للصراع والإقتتال.. لحظة هاتختلط فيها التيارات، واللي كان عدوك من ساعة بقى صديقك دلوقتي، لحد ما يوصل الصراع للذروة وتختلط كل التيارات في خط إنساني واحد! لحظة الخطر الأكبر اللي فطرتك وغريزتك الإنسانية بتطغى على كل الاختلافات الفكرية والأيدولوجية والسياسية، ويتحد الكل تحت مظلة البقاء والنجاة.
على مستوى التمثيل فخلاص.. طالما مخرج العرض جهز نفسه وأدواته كويس جدًا.. أتقن جدا تصميم ورسم الشخصيات وتطوراتهم.. أتقن جدًا تصميم الحوار وإخراجه بشكل عفوي وحقيقي -يمكن الاستثناء الوحيد للنقطة دي مشهد الكلام عن الكورة والأهلي حسيتها مصطنعة شوية- وبالتالي من الطبيعي إن خط الاتقان ده يمتد للممثلين.. مفيش ممثل واحد كان Outcast.. مفيش ممثل واحد ماكنتش مصدقه وشايفه حقيقي جدًا، وكان باين جدًا إن كل ممثل رغم إنه استلم دور وشخصية مكتوبين كويس جدًا ومتصممين ومرسومين بعناية وتدقيق شديد جدًا، إلا إنهم اشتغلوا على أدوارهم، وذاكروا تفاصيل سلوكية لكل شخصية.. مش هاحتاج اتكلم عن شطارة واتقان ناس زي نيللي كريم وهاني عادل وأحمد مالك وخالد كمال وطارق عبدالعزيز وحسني شتا، لإن كل الناس اتكلمت عنهم، بس محتاج أتكلم عن شطارة تانية.. شطارة شخصيات مالهاش References كتير في السينما المصرية تخلي الممثل يذاكر منها، زي شخصية (عيشة) اللي جسدتها مي الغيطي وشخصية (محمد) اللي جسدها عمرو القاضي، وبرضه لازم أذكر عدد من الممثلين اللي محدش كتير اتكلم عن أدوارهم بسبب صغر حجمها نوعًا ما، أو بسبب إن أبطالها وجوه جديدة، رغم تنفيذهم ليها بإتقان كان مبهر جدًا بالنسبة لي، زي محمد السويسي في دور \”عويس\” عسكري الأمن المركزي المسيحي، وزميله أحمد عبدالحميد في دور \”عوض\”، والطاقة التمثيلية الهائلة والمهدرة أحمد التركي في دور \”مالك\”.. محمد جمال في دور \”تامر\” اللي شال راية الكوميديا وتخفيف حدة الغضب والهم، والدويتو الهايل والحقيقي جدًا جميل برسوم ومحمد عبدالعظيم.. إنما مفاجأة الفيلم بالنسبة لي، واللي كان لافت انتباهي طول الفيلم بإتقانه لشخصية شديدة العنف والتصارع، هي شخصية \”دكتور معاذ\” أكبر أعضاء التنظيم سنًا، والمسؤول عن كل أفراد التنظيم جوا العربية.. الشخصية دي قام بيها الممثل الاكتشاف \”محمد علاء\”، واللي صعقت بعد ما خرجت من الفيلم وقررت إني أسريش عنه، وفوجئت إنه مواليد 1982! محمد علاء قدم دور لشخصية أكبر منه بحوالي 20 سنة بمنتهى الحرفية والاتقان، لدرجة إني دورت كتير عشان أتأكد فعلًا إنه هو ولا لأ!
في النهاية.. أقدر أقول إن فيلم \”اشتباك\” هو أفضل أفلام دياب حتى الآن.. فيلم مهم جدًا وإستثنائي جدًا في مسيرة السينما المصرية حاليًا.. فيلم وقع أمام تحديات وصعوبات كبيرة بسبب طبيعة فكرته.. نجح في أغلبها على الصعيد الدرامي والإخراجي والتمثيلي.. تجربة سينمائية إنسانية مهمة جدًا، قدرت تحطنا كلنا في عربية ترحيلات غصب عننا، زي ما بيحصل مع كل بائس بيخش المكان ده.. مابيحاولش يدعو لفكر معين أو يجبرك على إنك تشوف اتجاه معين.. بيجرد كل الصراعات دي وهو بيحطها قدام أكبر وأبسط صراع بيمر بيه أي إنسان.. صراع البقاء والنجاة.
تقييمي: 8/10*
*طبعًا على مقياس الأفلام المصرية.