أحمد شيمي يكتب: ابن نكتة

‏من أبلغ وألطف التقارير الإخبارية التي صدرت أيام الثورة، كان تقريرا مصورا لإذاعة BBC بعنوان (فقط في مصر.. الثورة الضاحكة)، بخلاف التحقيقات السائدة في هذا الوقت، والتي اتخذت طابع التشريح الجدي للفوارن الشعبي المتداعي والصاخب، الذي يتلجلج فوق أديم مصر من أقصاها إلى أدناها سواء بتناول الأسباب أو توقع المآل، خرج هذا التقرير المصور ملقيا الضوء على الاسكتشات الهزلية التي برع في أدائها معتصمو التحرير، كوسيلة فعالة لاستقطاب المواطن التقليدي المتحفظ ناحية الحدث الجلل، وكأداة مبتكره للثورة.

في الحقيقة لم تكن هذه الوسيلة مستحدثة، فقد اجتر هذا تاريخ مقاومة المصريين لأشد الخطوب بالسخرية، وقدرتهم التاريخية على تهزيء الطغاة وتسخيفهم وتحويل ملاحمهم العاتية إلى فصول هزلية تثير الضحك قبل أي شيء آخر، حتى المآسي والنكبات، استطاع المصري بعفوية أزلية تأريخها بمداد من الكوميديا والإسفاف.

تاريخ المعارضة في مصر ودون عن كل العالم يقرأ بالنكات، ويعاير بها منذ عريضة الفلاح الفصيح التي رفعها للفرعون في أربع برديات (ثلاث في متخف برلين وواحدة في المتحف البريطاني) يسخر فيها من الأغنياء والقضاة ووجهاء القوم، بعد مقدمة بليغة في تمجيد الملك ظاهريا، وتسبه وتهينه واقعيا، حتى كتابة عبارة (ميصحش كده) على جدران الشوارع في القاهرة.

واذكر -في هذا المقام- أحد أساتذتي في التاريخ  بمناسبة الحديث عن كسر حملة لويس التاسع على مصر (غزو اجتياحي كامل) وأسر ملك فرنسا  وإذلاله في المنصورة.. قال لنا ضاحكا (الله يسامحهم قلبوها مسخرة)، في إشارة منه إلى أن معظم المصادر الموثقة للحدث، وردت في شكل طرائف لمقالب الفلاحين التي استخدموها لقتل وأسر الغزاة.

ولم ينقطع المصريون عن التنكيت السياسي الجمعي أبدا، حتى قيل إنهم أطلقوا على مسجد بناه أحد سلاطين المماليك بالقهر والسخرة والسحت وسرقة المؤن والآثاث اسم (المسجد الحرام)، وإلى الآن لا يستخدم هذا المسجد للصلاة!

والكوميديا السياسية الفريدة في مصر ليست قاصرة على جانب الخير فقط، وكما اتحفنا التراث الشعبي بمقالب (علي الزيبق) و(شيحة) الطريفة، لم ينس نوادر السلطان قارقوش الساخرة من طغيانه (يقال إنه أصل كلمة الأراجوز).

سخر المصريون من الطغاة والغزاة، فخلدوا تسفيههم قبل مناقبهم، ويكفي أن تتخيلوا كيف سيورخ المصريون أبطال المشهد الآني كي تطمئنوا على مستقبلهم المخزي.. كوميديا الشر تكون أوقع وأشد إضحاكا، وانظروا كيف يقاوم المصريون الحالة المسماة مرتضى منصور (هو كوميديان بالمناسبة)، وكما يقول أحد الأصدقاء، فإن هذا الرجل لو وجد في أي مكان في العالم، لتمت غربلته، لأنه لم يترك دنيئة إلا وقد خاص فيها بوجه مكشوف (لا حكومه تهم ولا بوكس يلم).. يخاصم  فُجراً كيانات ومجموعات وجهات وأفراد بقباحة وتدني لم يعرف التاريخ الإنساني مثله، ومع ذلك أبت العجينة المصرية البيور إلا أن ترد على رأسه  إلا بكيس بول بشري ألقاه عليه صبي في شارع جامعة الدول العربية، وسينسى التاريخ كل هذيانه، ولن يدون في سجلة سوى هذا الكيس.

باسم يوسف وشادي أبوزيد وبلال فضل، وقبلهم أحمد فؤاد نجم ونجيب سرور، وغيرهم.. سلسال لم ولن ينقطع أبدا مادامت مصر يسكنها المصريون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top