أحمد شحاتة يكتب: لا أعبد ما تعبدون

\”قل لي كيف تبدو صورة الإله لديك، أقل لك من أنت\”.. إن ركن الإيمان الركين وذروة سنامه، يتمثلان في تصورنا عن الإله، ذلك التصور الذي ينعكس لا محالة على قناعاتنا العقدية، ومن ثم تنسحب تلك الصورة بشكل مباشر على سلوك المجتمع المؤمن، بل وتتعداه إلى التأثير في محيطه أيضاً، فلا يصح أن يقتصر الأمر على مجرد التنظير اللاهوتي، الذي لا يبرح قاعات أقسام الدراسات اللاهوتية (في الغرب عادة)، بل لابد أن نقدر الأمر حق قدره ويستدعي كلٌ منا صورة الإله لديه ويشرع في تحليلها وفهمها وفهم ما ترتب وما يترتب عليها.

إن من يستقرئ صورة الإله التي ترسخت لدينا نحن المسلمون، وامتلأت بها كتب تراثنا وذاكرتنا الجمعية، يجدها صورة مشوهة بامتياز، صورة تسيء لله على نحوٍ مزرٍ، تجعل منه إلهاً يغضب لنفسه، ويحتاج إلينا نحن البشر كي ننتقم له وننتصر له ونعمل فيمن يغضبه سيوفنا وأدوات بطشنا، وبذلك يكون قد درأ غضبه واسترد هيبته بين خلقه.. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إله يقبع في غياهب القرن السابع الميلادي ولا يتعاطى مع ما طرأ وما يطرأ على الكون بعد ذلك من متغيرات، تقولبت صور عقابه وثوابه ورضاه وسخطه في قوالب صلداء لا تتعاطى مع عوامل التعرية، حتى خنقت ما بداخلها وأفقدته مغزاه، وصارت تُعنى بالصورة وحسب.. إله يقدس القتل وقطع الأيدي والجلد والإثخان في الأرض، يقدس تلك الصور لذاتها وينتشي بإعمالها في خلقه.. لا يهم المقصد من وراء تلك الصور، ولا يجوز لأحد أن يجترأ عليه ويستحدث صوراً أخرى، حتى ولو كانت تلك الصور المستحدثة أقدر على تحقيق المقصد، وأكثر تناسقاً مع الرقي البشري.. كل ذلك لا يهم، كل ما يهم هو الصورة التي ذكرها الله في كتابه، أو على لسان رسوله، وكأن الله هو من استحدث تلك الصور العقابية، ولم تكن موجودة بالفعل قبل أن يرسل رسوله ويتعاطى مع ما أقره المجتمع آن ذك!

تلك الصورة اللتي أفزعتني حين اسشعترت ترسخها بداخلي، حتى وإن لم أنشغل بتفسيرها وتحليلها على هذا النحو قبل ذلك، ربما حالت تنشأتي الأصولية ودراستي الأزهرية دون طرح تلك الصور للنقاش الذاتي أصلاً، حتى اصطدمت بأشخاص ذوي صورة مغايرة عن الإله، ومع ذلك لم يفقدوا إيمانهم، بل إني أحسبهم أصدق في إيمانهم ممن يتشبثون بالصورة التقليديه تلك، أناس من أمثال البروفيسور مهند خورشيد، الباحث العربي في العلوم الإسلامية بجامعات النمسا وألمانيا، والذي يتتبع صورة الإله لدى المسلمين على النحو المذكور أعلاه، ويؤسس لصورة مغايرة يستنبطها هو الآخر من النص؛ إذ أن النص مفتوح على كل التفسيرات والتأويلات مهما تباينت المستنبطات تسامحاً وتطرفاً أو حداثةً وتخلفا، فينطلق خورشيد في أطروحاته من صورة الإله الرحيم العادل، الذي يؤمن بالإنسان، والذي ما منحه القدرة على التفكير وميزه بها عن باقي خلقه، إلا ليستثمر ذلك فيه ويجعله بحق خليفة له في أرضه، يعمل عقله ويرقى بنفسه وبمحيطه ويبتكر ويبدع أساليباً أرقى للتعايش والإعمار في الأرض.. ويستطيع كذلك أن يرتقي حتى بصورة العقوبة لمن يفسد في الأرض وينغص على المجتمع تعايشه وسلميته، فيستطيع أن يحقق مقصد الزجر للخارجين عن القانون، ولكن بصورة لا تفقده إنسانيته ولا تتسق وقيمه الحداثية.

من أجل ذلك، قررت ألا أعبد ما يعبد هؤلاء، وأن أودع تلك الصورة البغيضة عن الإله العنيف العنيد المتشبث بالأحكام المتقولبة المتحجرة، الذي يقبع في العصور الوسطى، ويتوقف به الزمن عند تلك النقطة، وأن أكوّن صورتي الذاتية عن الإله الجدير بالعبادة، الإله الرحيم العدل، الذي لا يحتاج لمن يفرض على الناس إرادته ومراده من خلقه بقوة السيف، الإله الذي يؤمن بالإنسان ولا يقيده في كل خطوة يخطوها أو نفس يتنفسه، الإله الذي منح للإنسان الفرصة الكاملة لكي يفكر ويبدع، ويصيب ويخطئ، ويعبده حباً وطوعا، لا خوفاً وكرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top