عندما ذهب الإمام محمد عبده إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، ورأى ما عليه الغرب من تقدم وانضباط وحضارة عريقة، قال قولته الشهيرة: \”رأيت إسلاماً بلا مسلمين\”.
جُلنا يحفظ هذه العبارة عن ظهر قلب، تلك العبارة التي تنطوي على عنصرية بينة، تحصر أي مظهر من مظاهر التقدم والرقي على الإسلام دون غيره، وتسلب الآخر أي احتمالية لتملك نظام قيَمي وحضاري وأخلاقي خاص به، فلطالما أبينا ومازلنا نأبى أن نعترف بتملك الآخر لذلك الأنموذج القيمي الخاص به، ترسخت هذه المقولة في اللاوعي العربي والإسلامي تماما كترسخ الصورة الشعرية الكلاسيكية المتمثلة في البكاء على الأطلال والاستئناس بها في تذكرأيام المجد الخوالي والتحسر عليها، مقولة يتم استدعائها بشكل لا إرادي كلما تصادم العربي بالغربي في مواجهة حضارية غير متكافئة، ينعي بها ما آل إليه حاله، وينكر على الآخر سبقه، وينسبه لنفسه، بكل ما تحويه تلك العبارة من تعجرف وجحود!
كنت أنا الآخر متشبعاً بمعاني تلك العبارة عندما اصطدمت دونما مقدمات بالحضارة الغربية، وأنا أتم بالكاد عامي العشرين، حينها سنحت لي الفرصة بالسفر إلى ألمانيا لمدة شهر في منحة تفوق دراسية، كنت أحاول بشكل لا إرادي أن أُرجع أي مظهر قيمي أو أخلاقي للملسلمين ولحضارتهم الغابرة، فعندما كنت أعطي البائع ما معي من النقود، وأتركه يأخذ ثمن ما اشتريت ويعطيني الباقي، ولا أهتم أبدا بالتأكد من أنه لم يأخذ أكثر من قيمة المشتريات ثقةً مني باستحالة حدوث أمر كهذا، كانت تحضرني على الفور الصورة اليوطوبية لتجار المسلمين في جنوب شرق آسيا، ما تحلوا به من أمانة جعلت الآخر يثق بهم ثقة عمياء، الأمر الذي جعل الإسلام ينتشر في تلك البقعة أكثر من غيرها من بقاع فُتحت بالسيف!
وعندما تعمق لدي الاحتكاك بالآخر وتعددت السفريات في مرحلة دراستي بعد الجامعية، أيقنت أنني كنت جدَ عنصريا متضخم الأنا عندما أنكرت على الآخر استحداثه لمنظومته القيمية الخاصة به، ونسبت مظاهرها لمنظومتي أنا القيَمية على نحوٍ تعسفي نرجسي، فأي فضل يمكنني ادعائه عندما أرى صديقي الألماني الملحد يجلس معي زُهاء الساعة ليعطيني وصفاً مفصلاً عن كل المساجد في منطقة سكني، والتي يمكنني أداء صلاة الجمعة فيها؟! أي صورة تاريخية يمكنني أن أستدعيها كي أنطلق من خلالها في تفسير مشهد كهذا ونسبته لحضارتي؟! وعندما أرى أوروبا، وفي مقدمتها ألمانيا تفتح أبوابها للاجئين الفارين من مناطق التناحر العربي-عربي، وتخاطر أيما مخاطرة بتقبل أعداد هائلة من أناس ذوي خلفيات حضارية واجتماعية مغايرة تماما لتلك التي ترسخت في المجتمعات الغربية، وترصد لدمجهم في المجتمع الغربي مليارات الدولارات، إذ أن الأمر لا يمكن أن يقصر على الاحتواء المكاني من حيث توفير مسكن وملبس وطعام وفقط، وإلا لهان الأمر وانتفت المشكلة، في ذات الوقت الذي يتنصل منهم بنو جلدتهم من أثرياء العرب ورافعي رايات الأيديولوجيات الدينية والقومية، خاصة في دول الخليج.
لا أريد بكلامي هذا أن أصور الآخر على أنه ملاك، لسببين: أولهما أن الآخر ليس ملاكا فعلاً – إذ ليس على الأرض ملائكة أصلاً – فهو الآخر له زلاته، ولا يخلو من أصوات العنصرية واليمينة المتطرفة، وإن كانت تلك الأصوات لا تمثل سوى نسبة ضئيلة بالمجتمع الغربي على كل حال، والتي لا تمتلك القرار (وأتمنى أن يظل الأمر كذلك)، وثانيهما – وهذا هو السبب الأهم – أنني عندما أصور الآخر على كونه ملاكا، فإنني بذلك أقع في نفس الخطأ الفادح الذي أنتقده في مقالي هذا، إذ أكون بذلك أتحرر من تقديس حضارة آفلة لأقبع في أغلال العبودية والتقديس لحضارة أخرى مهيمنة، وهذا أمر لا أرتضيه لنفسي أبدا.. كل ما أصبو إليه أن نكون موضوعيين، لا ننسب لأنفسنا ما ليس لنا، ولا ننظر للآخر من خلال ذواتنا ومنطلقاتنا الحضارية، بل من خلال ذاته هو ومنطلقاته هو الحضارية.