أحمد شحاتة يكتب: عن ذكورية الفقه الإسلامي

لا شك أن الأديان كانت عند نشأتها بمثابة ثورة على أوضاع مجتمعية مجحفة ورجعية وعنصرية، وساهمت بشكل كبير في مناهضة تلك الظواهر الفاسدة، لكن عندما يقبع معتنقو الديانات في فترة النشأة تلك ولا يتجاوزوها إلى الحداثة التي تقتضيها متطلبات كل عصر، فإنهم يتراجعون تلقائيا إلى مربع الصفر، المربع الذي يتطلب بدوره ثورة جديدة تهشم الشرنقة الضبابية التي حالت وتحول بينهم وبين مقتضيات عصرهم وطوقتهم وطوقت من حولهم، حتى تكاد تذهب بحياة الجميع، وأزعم أن هذا هو ما آل إليه حالنا نحن المسلمون أكثر من غيرنا، فبينما تجاوزت كثير من الديانات الأخرى مرحلة النشأة تلك وتمحورت وتطوعت على نحوٍ ما، حتى أمكن لها بشكل أو بآخر الدخول تحت عباءة الحداثة كما هو الحال في معظم الدول الغربية، لا زالت الأصوات الأصولية التي تتمسك بالتشرنق في مرحلة النشأة تلك صاحبة الصوت المسموع والطرح الأكثر شعبوية والأكثر هيمنة في عالمنا الإسلامي.

وأود أن أتحدث هنا تحديدا عن الجانب الخاص بالذكورية الطاغية على الفقه الإسلامي لما للفقه من تدخل مباشر في تحديد الحقوق والواجبات للفرد المسلم، على خلاف المباحث الدينية الأخرى التي تُعنى بالعقيدة أو الغيبيات، والتي لا يترتب عليها بالضرورة تحديد العلاقات الفردية والمجتمعية للمعتقدين، وأود أن أؤكد كذلك أن هذا الأمر مشترك بين باقي الديانات بشكل أو بآخر، لأنه لا يتصور أن تنسلخ الأديان من سياقها التاريخي على نحوٍ يمكنها من وضع قوانين وأُطُر تتجاوز الأزمنة والأمكنة، فذلك أمر من الاستحالة بمكان، ولكني سأقتصر على تناول هذا الموضوع في الإسلام دون غيره لسببين، أولهما هو كوني مسلما درست في الأزهر وملما بهامش من المعرفة الشرعية ومؤمنا ببدهية أنه من الأولى أن يتولى عملية النقد الديني أبناء الدين أنفسهم دون أن يؤدي غيرهم تلك المهمة نيابة عنهم، وثانيهما – كما ذكرت آنفا – أن المجتمع الإسلامي يعاني أكثر من غيره من هذه المشكلة – وغيرها – فلا زالت القوانين (حتى الوضعي منها) تتأثر تأثرا مباشرا بالأحكام الفقهية في صورتها الأولى، دون مراعاة المقاصدية التي أؤمن بها أكثر من إيماني بالصورة على أية حال.

فمن يتتبع الفقه الإسلامي يراه مصطبغا بصبغة ذكورية فجة منذ النشأة وحتى الآن، فقد كان ولا يزال (شبه) محصورا على الرجال دون النساء، بدءاً من كبار فقهاء الصحابة كابن عباس وعلي وغيرهما، ومرورا بأصحاب المدارس الفقهية الأربع الأكثر ذيعا في العالم السني، أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وتلامذتهم: أبي يوسف والشيباني وزفر والأوزاعي وابن إسحاق والمزني.. وغيرهم من الرجال حصرا، ومن تلاهم كابن القيم وابن تيمية.. ومن لا يمكن حصر أسمائهم من الرجال حتى وقتنا هذا.

أعرف أن الأصوليين (وربما غيرهم أيضاً) سيستشيطون غضبا عندما يقرأون هذا الكلام، ويرددون بشكل تلقائي ما روي عن الرسول (ص) \”خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء(السيدة عائشة)\”، وبغض النظر عن كون هذا الحديث ضعيفا، أو كونه حديثا أصلا أم لا، فإنه ذكر في سياق رواية الحديث عن الرسول (ص)، لأن السيدة عائشة كانت الأقرب إليه، وأكثر من سمع أقواله وشاهد أفعاله، والحديث هنا عن الفقه وليس الرواية، وربما يراني آخرون مجحفا ومدلسا، ويحيلونني إلى مؤلفات شمس الدين السخاوي وغيره ممن رصد عددا كبيرا من الفقيهات عبر التاريخ الإسلامي، وبغض النظر عن كون وجود عدد كبير من الفقيهات عبر التاريخ الإسلامي حقيقة أم لا، فهذا ليس هو الفيصل من وجهة نظري، الفيصل هو المنتج لا العدد، وأنا هنا أطلب من القارئ مشكورا أن يدلني على ثلاث أو اثنتين أو فقيهة واحدة سنحت لها الفرصة بتأسيس مذهب فقهي يعتد به في العالم الإسلامي.

وأنا هنا أيضا لا أُرجِع السبب في ذكورية الفقه الإسلامي إلى الإسلام نفسه، باعتباره مطلبا دينيا، إذ ليس في الإسلام ما يمنع المرأة أبدا من تولي تلك المهمة، وأرى أن السبب في ذلك يرجع إلى كون المجتمع الإسلامي نفسه (كان ولا يزال) مجتمعا ذكوريا بامتياز، فكان لابد من انعكاس ذلك على المنتج الفقهي بالضرورة.

وبعيدا عن مسألة المقارنة الإحصائية بين عدد النساء والرجال المشتغلين بالفقه، فإن من يتمعن أبواب الفقه – حتى ما يختص منها بالمرأة دون الرجل – يجد أن الذكورية حاضرة وطاغية دائماً، وسأذكر فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

في مسألة تحديد عورة الرجل والمرأة، نجد أن محور تلك المسألة الفقهية هو الرجل في كلتا الحالتين، فيكون كل جسد المرأة عورة (خلا وجهها وكفيها في أكثر الآراء تساهلا) لما في ذلك من فتنة للرجل، وتكون عورة الرجل من السرة إلى الركبة، انطلاقا أيضا من منظور الرجل الذي لا يستسيغ (عادةً) رؤية تلك المنطقة من جسد غيره من الرجال، دون اعتبار للمرأة التي قد تفتتن على أية حال بمناطق أخرى من جسد الرجل غير تلك الداخلة في إطار العورة!

وكذلك مسألة جواز زواج المسلم من الكتابية (المسيحية أو اليهودية) وتحريم زواج المسلمات من الكتابيين، بالرغم من أن النص وإن أباح الصورة الأولى صراحة في قوله تعالى \”الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ..\” فإنه لم يحرم الصورة الثانية بالضرورة، ولكن مَن منِ الذكور القائمين على تصدير الأحكام الفقهية سيعنى بتبني المنظور النسوي في تلك المسألة (وغيرها)، اللهم إلا أقل القليل من الفقهاء المحدَثين والذين لا يلقون تريحيبا، بل لا يسلمون من هجوم عموم الفقهاء الأصوليين عليهم، أولئك الذين ينتصرون دائماً.

حتى المسائل الفقهية التي تتعلق بأحكام المواريث أو الشهادة أو غيرها من عشرات المسائل الفقهية التي تتباين فيها الأحكام على حسب الجنس، وحتى مع ورود النص، فإني أرى أن معظم هذه المسائل في حاجة إلى إعادة نظر على اعتبار تغير المعطيات الزمانية والمكانية والاجتماعية وفي شتى المناحي الحياتية عنها في عصر النشأة، وأنا بذلك أتبنى المنهج التشريعي (القرآني) المقاصدي نفسه، الذي انتهج مبدأ النسخ وتغيير الأحكام القرآنية وتطويرها تماشيا مع المطلبات والمتغيرات التي اقتضاها الواقع آن ذك، وإنني الآن أتساءل، إذا كانت عملية النسخ والتغيير والتبديل والتطوير تلك ضرورية على مدى ثلاثة وعشرين عاما – فترة نزول الوحي – كي تتناسب مع التغيرات الحياتية في تلك الفترة الوجيزة (باعتراف الأصوليين أنفسهم)، أفلا يكون أكثر ضرورة وإلحاحا أن نعيد الفهم في تلك المسائل وغيرها بعد مرور أكثر من 1400 عاماً؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top