أحمد شحاتة يكتب: أن تكون أزهريا

قضيت ستة عشر عاما داخل أسوار الأزهر، معهدا وجامعة، وعندما أقول \”أسوار الأزهر\” فإنني أعني حقا ما أقول.. هي أسوارٌ بالمعنى الحرفي للكلمة.. ربما تكون مؤسسة الأزهر هي أكثر مؤسسة تعلمية إنغلاقا على مستوى العالم، فالأزهر لا يستوعب سوى المسلمين، إذ لا مكان فيه لاتباع الديانات المغايرة، لكن على النقيض لا يقتصر الأزهر على الدراسات الإسلامية وحسب، وإنما يتطرق كذلك لدراسة الديانات الأخرى، وهي بالطبع ليست دراسات أكاديمية موضوعية، وإنما هي دراسات دوجمائية متحيزية، وهذا أمر بدهي إذا ما أخذنا في الاعتبار مسألة تحييد غير المسلمين من المشاركة في هذا الطرح والتعبير عن حقيقة معتقدهم رأسا.
فكنا ندرس الديانات الأخرى فقط في سياق إبراز فضل الإسلام عليها واحتفاظه بشكله الأول الصحيح، في حين حادَ غيرُ المسلمين عن الشكل الصحيح لدياناتهم، ومن ثم فقد ضلوا الطريق وتقطعت بهم السبل، طبعا الحديث هنا عن الديانات الإبراهيمية، ولا عزاء لغيرها من الديانات.

لا يقتصر الأمر على تفنيد الديانات المغايرة وحسب، بل إن الأمر يتعدى إلى تفنيد المذاهب المغايرة أيضا، أعني المذاهب المغايرة لمذهب أهل السنة والجماعة، فإن مذهب أهل السنة والجماعة يشكل بالنسبة للمؤسسة الأزهرية نقطة الارتكاز التي تقاس بها \”إسلامية\” باقي المذاهب قربا وبعدا من نقطة الارتكاز تلك، وكلما بعدت الأفكار عن المركز كلما تم سلخها عن الإسلام كلية، حتى تتلاشى مذاهب برمتها عن الدخول تحت عباءة الإسلام، حتى وإن أقر أهلُ تلك المذاهب أنفسُهم بتبعيتهم لذلك الدين، وبما أن الناقل والمتلقي والمضمون ذاته (في أكثر الأحيان)، كلهم يتبعون مذهب أهل السنة والجماعة، فلا سبيل لتمثيل من يتحدث باسم تلك المذاهب المغايرة وينقل أفكارها بشكل مباشر.. إذ أنه كما يقولون \”أهل مكة أدرى بشعابها\”.

وعلى المستوى التربوي فإن طالب الأزهر طالبٌ مسكينٌ حقا، فهو مطالب بتحصيل أضعاف المادة العلمية التي يحصلها قرناؤه في المؤسسات التعليمية الأخرى، فهو مطالب في مرحلة التعليم الابتدائي بحفظ جزء كبير من القرآن الكريم – قديما كان مطالبا بحفظه كاملا قبل الانتهاء من المرحلة الابتدائية – ولا تُراعى في ذلك مسألة الفروق الفردية، إذ أن من الأطفال من لا يجيد مسألة الحفظ تلك، وهذا أمر تربوي معروف ولابد من التعامل معه، والسؤال الأهم: ما الهدف أصلا من مسألة الحفظ عن ظهر قلب؟
ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، فبمجرد دخول الطالب الأزهري المرحلة الإعدادية، تنهال عليه المواد الدراسية بدون مقدمات، حتى تصل في مجملها إلى بضع عشرة مادة دراسية، فإلى جانب المواد التي يدرسها غير الأزهريين، يدرس الأزهري المواد الشرعية بفروعها، من فقه وتفسير وحديث وسيرة وتجويد وغير ذلك، والمواد الخاصة باللغة العربية، من نحو وصرف وأدب ونصوص.. إلخ، كل هذا في تلك المرحلة الإعدادية التي ما زال فيها الطالب الأزهري طفلا.. وليست المشكلة في الكم وحسب، بل المشكلة بالدرجة الأولى في الكيف، إذ أن محتوى كل تلك المواد هي كتب تراثية لا يُتصور أبدا أن تُدرس في عصرنا هذا بنفس صورتها، دون مراعاة المتغيرات التاريخية والاجتماعية، ويزداد الأمر كثافة وتعقيدا عندما يدخل الطالب الأزهري المرحلة الثانوية، فيصل عدد المواد الدراسية إلى ثمانية عشرة مادة.. أكثر من ثلاثة أضعاف المواد التي يدرسها غيرُ الأزهري!

وهناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن المشاكل السابقة، مشكلة فصل الجنسين في مراحل التعليم المختلفة، اللهم إلا المرحلة الابتدائية، الأمر الذي يجعل كلا الجنسين يجهل الآخر تماما، حتى يصل أحدهم إلى سن الثانية والعشرين على الأقل وهو لا يدري كيف يتحدث إلى الجنس الآخر وكيف يتعامل معه.. هذا كان هو حالي على الأقل، الأمر الذي يولد بالضرورة الكثير من المشاكل النفسية والاجتماعية في نظرة كلٍ من الجنسين للآخر، ويترك مساحة هائلة من بناء التصورات المغلوطة والمشوهة عن الجنس الآخر.

بالرغم من كل هذا، فأنا لست نادما أبدا عن تلك السنين التي قضيتها في الأزهر، لأنها أعطتني بحق إمكانية لرؤية هذه المؤسسة المنغلقة من الداخل عن كثب، وأشكر القدر الذي أتاح لي بعد ذلك إمكانية رؤية مؤسسات علمية مغايرة سواء داخل مصر أو خارجها من الداخل أيضا، حتى أتمكن من رؤية الأمر بوضوح، فكانت نزعتي وتنشأتي الأصولية المنغلقة مع مرور الوقت دافعا للتمرد عليها بنفس الدرجة من التشبث بها في بادئ الأمر.. كما يقول أبو نواس \”دَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ\”.

لا يا سادة، الأزهر ليس وسطيا، لا شيء في الكون أصلا وسطيٌ، إذ أن الوسطية هي الأخرى مسألة نسبية، وليس مطلوبا من مؤسسة علمية أن تكون وسطية أو غير وسطية، المؤسسة العلمية لابد أن تكون علمية وفقط، علمية بأن تتبنى المنهجية العلمية، علمية بأن لا تمنع أحد من الالتحاق بها، علمية بأن لا تفصل بين الجنسين في محراب العلم، علمية بأن لا تكون مذهبية، علمية بأن تمثل الرأي والرأي الآخر.

والغريب أنه بعد كل ذلك يُعهد إلى تلك المؤسسة تحديدا وحصريا بمهمة الإصلاح وتجديد الخطاب الديني.. تلك المؤسسة التي تحتاج هي بالأحرى لإصلاح داخلي وإعادة هيكلة قبل أي شئ.. تعلمنا فيما تعلمنا أن فاقد الشيء لا يعطيه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top