أحمد سمير يكتب: لا شيء يعجبني

يقول مسافر في الباص: لا شيء يعجبني
لا الراديو ولا صحف الصباح، ولا القلاع على التلال. أريد أن أبكي.
يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطّة، وابك وحدك ما استطعت.
تقول سيّدة: أنا أيضا. أنا لا شيء يعجبني. دللت ابني على قبري فأعجبه ونام ولم يودّعني.
يقول الجامعيّ: ولا أنا، لا شيء يعجبني. درست الأركيولوجيا دون أن أجد الهويّة في
الحجارة. هل أنا حقا أنا؟
ويقول جنديّ: أنا أيضا. أنا لا شيء يعجبني. أحاصر دائما شبحا يحاصرني.
يقول السائق العصبيّ: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة ’ فاستعدوا للنزول! فيصرخون:
نريد ما بعد المحطّة’. فانطلق.
أمّا أنا فأقول: أنزلني هنا. أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبت من السّفر.

ههنا درويش كعادته مقتضبا واضحا قاسيا في تصويره لأشخاص ذوي هموم متباينة لا يجمعهم سوى الإحباط وانتظار ما بعد الموت -المحطه القادمه –
الاول: ربما هو رجل فلسطيني، يعبر منتصف عقده السادس بثقل متناهي، يرى شعره الأشيب في المرآة، فلا يدرك متى حدث كل ذلك؟ لايدرك ما يدور من حوله سوى ما تتناثره صحف الصباح، رأى القنابل تتناثر من فوق رأسه أكثر من رؤيته للندى يسقي زهور الياسمين، تعود رؤية الموت ولقياه حتى فقد الموت رهبته عنده فصار باهتا، رجل لم يبق له سوى كرسي خشبي بالٍ، ونافذة تطل على ركام حلم قد أسقط بإحدى قذائف الهاون، هذا الرجل الآن وبعد كل ما مر، ليس بيده أن يقتل خوفه ليمسك بحجر فيقذف به عدوه، لا يستطيع الآن أن يحلم بقطرات المطر تروي الزنابق لتخضر الأرض البوار، لا شئ بيديه سوى البكاء، ثم البكاء، لكن حتى ذلك صار محظورا، فسائق عربة الحياه الغاشم لا يتحمل حتى أنين عجوز.
والثاني: ربما هي أرملة أربعينية، كانت تسكن أحد أزقة الخليل، كان مهرها قرطا ذهبيا بديعا، يتوسطه حجر كريم بلون عينيها ولون سماء فلسطين قبل الغمام، قتل زوجها حين كانت حبلى علي يد عصابة شتيرن، سارت حينها في جنازته صامتة، من دون دمع، حتى رأت قاتله يكرم تحت اسم محاربي الدولة، فبكت، بكت كثيرا، كان عزاؤها الوحيد حين تحكي لابنها الصغير عن ابيه، كيف كان يضحك، وكيف كان يغضب، وكيف يأتيها كل يوم في منامها يبتسم لها ويذهب، دارت الأرض دوراتها، وكبر الولد يحمل غضبة أبيه وحماسه، وصبر أمه المديد ولون عينيها، كبر الولد ليمشي على درب أبيه، الذي -على ما يبدو- لا يؤدي إلى هدف، قُتل الولد كما قُتل الوطن، وكان صوت زغاريدها في جنازته يحرك هواء الحي الثقيل، مرت الأيام بعدها على ما تبقى من صبرها، فانطفأ نورها، وأطبق الحزن على جنبات روحها، وصار قلبها فارغا، كدارها وحيها، وما تبقى من ركام الوطن، ضاع منها الأمل وسط كل تلك الأشياء التي فقدتها في حياتها.

والثالث: ربما هو شاب عشريني ممن يسمون عرب 48، درس الأركيولوجيا في جامعة تل أبيب، وصار من بعدها يهيم على وجهه في الأرض الخراب، حائرا، بين الصخور، يبحث عن جثة إبراهيم المفقودة، ليسأله عن الوعد المشئوم، وكيف لرب العباد أن يأمر العباد، عباده بقتل بعضهم بعضا.
والرابع: ربما هو جندي مصري ممن قذف بهم في حرب اليمن كما يقذف الطفل اللاهي لعبة من الطابق العشرين، أبصر الجندي موته نهارا فصارعه وحبات العرق تبلل جبينه، صرع الموت ووقف فوق جثته يصرخ بحثا عن الجواب، وفي المساء وبينما القذائف تضئ السماء الكالحة وتقبض الأرواح الثكلى جاور الموت في خيمة لا تمنع الشتاء، حكى له عن زوجته النوبية ذات الضحكة التي تشبه صفاء السماء بعد مطر غامر، وعن بيته على ضفة النهر البعيد، وحين انتهت الحرب – أيضا دون أن يدري – رحل إلى وطنه بقلب أنهكه الشوق، وعقل أنهكه السؤال، ويدين ترتعشان بلا توقف، وقدم واحدة، لم يعد للحياة لهذا الجندي من معنى – ولا الموت أيضا- كلاهما لديه -الآن- والعدم سواء، يصبر الآن على حياته التي، لا أمل فيها، ليس إلا انتظارا لحياة أخرى يروي فيها ظمأ عقله للأسئلة التي لا يجد لها إجابة، ويرى فيها ميزان العدل قد اعتدل، ليتقلد فيها النياشين والأوسمة من فقد روحه وقلبه وجسده في نار الحرب المستعرة التي تأكل كل ما يقذف لها وليس من طنطن بالكلمات الزاعقة وهو مختبئ بجحر الفئران.
وفي النهاية درويش نفسه يطلب من سائق عربة الحياة العصبي ألا يصل به إلى خط النهاية متشبثا بالحياة حتى آخر رمق، هو نفسه يملك حيرة الشاب العشريني الذي يبحث عن اليقين وخوف العجوز الستيني الذي لا يقوى على المواجهة، هو يملك حزن الأرملة وصبرها المديد وتجول برأسه ذات اسئلة الجندي الذي يحاصر الأشباح ليلا وتحاصره نهارا، إذا هو مثلهم ولربما مأساته وآلامه أعظم، لكن الفارق الوحيد عنهم يكمن في كلمة بسيطة، انه الأمل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top